وداعا طفلنا ريان – ذ. عبدالقادر الصالحي
ماذا عساي أن أقول في حقه؟ في الحقيقة تنحبس الكلمات ويتلكأ اللسان عن البيان لما جرى لطفلنا ريان. طفل في الخامسة من العمر، وكأن لبن أمه لم يجف بعدُ في فمه. كان زهرة يانعة في وسط حديقة غناء تسر الناظرين ويفوح شذاها من روحه الباذخة بالطهر والنقاء والبراءة والصفاء. خمسة أيام عاشها في غياهب الجب وهو يكابد الألم وحيدا لا أنيس معه ليخفف عنه ما يتنغصه من أسًى وتوجع، كان يصارع الموت للنجاة بحياته وسط ظلام كالح، ليس له إلا الله عز وجل، فهو خير أنيس وكفيل، كما قال سبحانه “فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين”.
إنه طفل في ذروة النقاء والصفاء، لم تقترف يداه جرما ولا معصية. لهذا لا عجب إن قلنا أنه طير من طيور الجنة…وأن يجعله الله بفضله وكرمه في كفالة إبراهيم عليه السلام.
فقد روى الإمام البخاري في (صحيحه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا … فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لاَ أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا مَا هَؤُلاَءِ؟ … قَالاَ لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ … أَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ.
قد كان الله أرحم به منا جميعا إذ قبض روحه في ذلك القعر المظلم السحيق والجب الضيق العميق، تلك الروح التي كأنها بعثت من جديد لتضبب هذا الشرخ العميق الذي أصاب الأمة والإنسانية، ولترمم الرتق وترقع الخرق بين الناس ولتعيد آدميتنا وإنسانيتنا بعد ما انصهرت في براثن الأنانية والفرقة والوحشية ولو لبرهة من الزمن – ولو لخمسة أيام-، هي روح طاهرة بلغت الكمال والجلال والجمال، ولما ارتقت ووصلت انتهت لتعود أدراجها إلى بارئها، هو سر الله المكنون في أضعف خلقه، ذلك الجسم الصغير النحيل الذي اهتزت له قلوب الأنام وارتجت له جنبات الأرض بأهلها…شيبا وشبانا، صغارا وكبارا، بعيدا كان أوقريبا…أجمعوا على كلمة واحدة هي العتق، لكن عتق الله كان أسبق وأرحم…
سلامٌ على عهد الطّفولة إنّه ** أشد سرور القلب طفلٌ إذا حبا
ويا بسمةَ الأطفال أي قصيدة ** توفِّي جلال الطّهر ورداً ومشربا
فيا ربّ بارك بسمة الطّفل كي نرى ** على وجهه الرّيان أهلاً ومرحباً
ويا رب كفكف دمعه برعايةٍ **ولطفك بالطفل ريان إذا كبا
وحبّبه للأجيال تحضن طهرَه** وتقبس منه الطّهر عطراً مطيبا
ويا رب في بيتي عصافير دوحة** فقلب والديه من خوف الفراق تشعّبا
ويقول أحدهم:
تَزَوَّدْ مـن التقـوى فإنك لا تـدري *** إذا جَنَّ ليلٌ هـل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من فَتًى أمسى وأصبح ضاحكاً *** وقد نُسِجَـْت أكفانُه وهو لا يدرِي
وكم من صغارٍ يُرْتَجَى طولُ عمرهم *** وقد أُدخلت أجسامُهم ظلمـةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوهـا لزوجهـا *** وقد قُبضت أرواحُهـم ليلةَ القدرِ
وكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ *** وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهرِ
وهكذا الدنيا مع أهلها، فكم لها من طعين، وكم لها من جريح، وكم لها من قتيل، أضحكت أقواما أياما ثم أبكتهم أعواما، غدارة لا يأمن لها إلا المجنون، اختطفت الأحباب وتركت من أحبهم يتجرعون غصص المصاب، كم أخذت من عزيز ورحلت من حبيب، فليس لنا إلا سح الدموع وذرف العبرات، وقول لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم اجعله ذخرًا لوالديه، وفرطًا وشفيعًا مجابا، اللهم أعظم به أجورهما، وثقل به موازينهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. آمين آمين
بقلم عبدالقادر الصالحي
خبير تربوي (هولندا)