نهاية التعاون الروسي التركي في الأفق؟
بدأت تلوح علامات التعاون فيما بين روسيا وتركيا في عام 2004 حين قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة تركيا ومعه المفكر الروسي اليميني ألكسندر دوجين. كانت مهمة دوجين هي بناء شبكة نفوذ روسية وسط النخب التركية لسحب تركيا من الغرب استنادًا إلى فكرته الأساسية «الأوراسية»، المتمثلة في تكوين إمبراطورية أوروبية آسيوية جديدة قائمة على فكرة العدو المشترك المتمثل في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يمثل القيم الليبرالية التي ينتقدها دوجين ويرى أنها تمثل نقيضًا للقيم التي تحملها إمبراطورية أوراسيا الجديدة.
العديد من الأسباب التي تعكر صفو العلاقات فيما بين تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). منها التعاون فيما بين تركيا وروسيا عسكريا وسياسيا. نتطرق إلى الاستفاضة في بعض تلك الأسباب كما يلي:
دعم روسيا في كسر انقلاب 2016:
انتشرت في انحاء تركية الكثير من الروايات التي تفيد أن الاستخبارات الروسية قامت بإبلاغ المخابرات التركية بوجود تحركات غير عادية في الجيش التركي واحتمال وقوع انقلاب عسكري في تركيا. ورغم عدم إسناد تلك الروايات لمصادر موثوقة، ومع صمت المسؤولين الأتراك عن التعليق، لم يشكّك كثير من المحللين الروس والغربيين في حدوث ذلك، بل إن بعضهم دلّل عليه بالامتنان الواضح الذي أبداه الرئيس أردوغان للموقف الروسي من المحاولة الانقلابية، وقال بعضهم إن الاجراءات التي اتخذها الرئيس أردوغان ومسؤولو حكومته لمواجهة الانقلاب من الصعب أن تكون بلا سبب.
تواصلت انتشار مثل تلك الروايات عن تدخل الاستخبارات الروسية في المساعدة على صد الانقلاب العسكري وذلك بعدد ترددها على لسان ألكسندر دوجين في اجتماع ثنائي عُقد في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2016 في موسكو، مع أحمد تونك، مستشار رئيس بلدية أنقرة الموالي للرئيس رجب طيب أردوغان. خلال الاجتماع، طرح دوجين الزعم المثير بأنه شخصيًا ساعد في إنقاذ تركيا من انقلاب عسكري بإبلاغ السلطات التركية عن بعض «التحركات غير العادية» في الجيش في 14 من يوليو/تموز 2016 قبل يوم واحد من محاولة الانقلاب الفاشلة.
من المرجح أن التحول الكبير في سياسة أردوغان الخارجية والتوجه نحو التحالف مع روسيا كان له الأثر الأكبر في وعد الدول الغربية بدعم الجيش التركي في انقلابه العسكري. هذا التحول كان سببًا أيضًا في إنقاذ أردوغان من الانقلاب. وأردف المفكر السياسي الروسي دوجين بأن العسكريين الأتراك المتورطين في محاولة الانقلاب لم تكن عندهم القدرة على فعل ذلك بدون أن يحصلوا على دعم كبير من دول الغرب المعارضة لتحالف تركيا وروسيا. ومن الصعب التفكير في أن الاستخبارات الروسية التي تقيم قواعد تنصت حول تركيا وتعرف قاعدة إنجيرليك الأمريكية جيدًا، لم تكن على علم مسبق بالانقلاب. في 12 يوليو/تموز، تحركت سفينة استخبارات روسية تحمل اسم «إكوادور» ومرَّت من منطقة المضيق، وكانت بالقرب من بحر إيجه حيث قضى أردوغان عطلته وقت وقوع الانقلاب.
صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية إس ــ 400:
من أحد الأسباب التي أدت إلى غضب عارم داخل حلف الناتو هو قيام تركيا بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية إس ــ 400. ترى «مارا كارلين أن العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا تمر بأوقات عصيبة. في أنقرة، تصطبغ وجهات النظر بمشاعر الخيانة الناجمة عن تعاون الولايات المتحدة مع القوات الكردية في سورية والعراق، إلى جانب مخاوف أمنية حقيقية والأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين. وفى واشنطن، وعلى الرغم من الجهود الأمريكية المبذولة لبيع تركيا نظاما بديلا لمواجهة التهديدات الدفاعية الصاروخية والجوية، لم يؤدِ الانزعاج من قرار أنقرة قبول منظومة الدفاع الجوي الروسي إس ــ 400 إلا إلى إذكاء الإحساس بالإحباط إزاء ميل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السلطوية، والتعاون المتزايد مع موسكو، وتهديد شركاء أمريكا الأكراد.
يعتبر تسلم تركيا منظومة إس ــ 400 الصاروخية الروسية المُصممة لاستهداف الطائرات الحربية التابعة لحلف الناتو قد يقوض الدور الذي تلعبه أنقرة ضمن تحالف الدول الغربية. ويُعتبر هذا القرار حصيلة مجموعتين من الاعتبارات التركية المتناقضة.
من جهة، يساور أنقرة شعورٌ عميق بعدم الأمان. فإذا ما راجعنا خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والنهج الذي تتبعه الصحافة التركية، الخاضعة بشكل شبه كامل إلى سيطرة النظام، يظهر ميلٌ إلى اعتبار الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا العدو الأول. من جهة أخرى، تعتبر أنقرة نفسها أيضا حليفة الغرب الأولى التي لا غنى عنها. لذا يرى الأتراك أن واشنطن ستجد في نهاية المطاف طريقة لتقبل قرار تركيا شراء منظومة إس ــ 400 نظرا إلى أهمية أنقرة الاستراتيجية، ناهيك عن إسهاماتها التي لا يُستهان بها في عملية إنتاج الطائرات المقاتلة من طراز إف ــ 35. لا شك أن شراء تركيا منظومة إس ــ 400 سيؤدى إلى تداعيات تلقى بظلالها على الناتو، وتقوض إيمانها بوجود تضامن بين الدول الأعضاء في الحلف. أما الرابح الأكبر في هذه المعادلة فهو روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، الذي نجح في تقويض حلف اتحاد الناتو.
العمليات العسكرية التركية في سوريا:
إن العملية العسكرية التركية “نبع السلام” في شمال سوريا كان لها أثر كبير سلبي على العلاقات مع حلف الناتو. وعلت الدعوات المنادية لإقصاء تركيا من الحلف، فإلى جانب سياسيين من حزب اليسار، شكك أيضا رئيس الكتلة النيابية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، رولف موتسنيش في عضوية تركيا في الناتو. وحتى أطراف واسعة من المجتمع الألماني تؤيد هذه المبادرة؛ ففي استطلاع للرأي بتكليف من وكالة الأنباء الألمانية يدعم 58 في المائة استبعاد تركيا من الحلف بسبب التدخل العسكري التركي في شمال سوريا، و18 في المائة فقط عارضوا ذلك.
لاقت العملية العسكرية في الجانب التركي استحساناً كبيراً حيث تم للوهلة الأولى منع قيام دولة كردية. الميليشيات الكردية، ووحدات حماية الشعب التي تعتبرها أنقرة إرهابية يتم حاليا إبعادها في تعاون مع الشرطة العسكرية الروسية عن الحدود السورية التركية. وساعدت هذه العملية العسكرية أنقرة على تحقيق أهدافها الأمنية السياسية. وفي ذات الوقت تأتي العملية لتشكل تضاربا في المصالح مع غالبية بلدان الناتو: فالتدخل العسكري لم يعزز فقط من تنظيم “داعش” وسهل هرب مقاتلين تابعين له، كما تقول الدول الأوروبية، بل عملت أيضا هذه العملية العسكرية على تقوية المنافس الأكبر للناتو وهو روسيا. فعملية “نبع السلام” ساعدت موسكو على تقوية موقعها في سوريا وإرساء سوريا “كدولة تابعة للكرملين”.
إن إقصاء تركيا من حلف الناتو هو شيء مستبعد أو مستحيل من الناحية القانونية. حيث أن اتفاقية الناتو لا تشمل إقصاء بلاد من الحلف الأطلسي. لكن البلد العضو يمكن له بموجب الفصل 13 من اتفاقية الناتو تقديم طلب للانسحاب. وحتى لو كان شركاء الحلف قادرين من الناحية القانونية على القيام بذلك، فإنهم لن يفعلوا ذلك. إن إقصاء تركيا أمر “غريب”، إذ سيؤدي إلى نشأة ” خطر أمني كبير جديد في الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي”. وحتى خلال لقاء الناتو الأخير لم تكن المؤشرات توحي بالعزلة، بل العكس لأنه تم تأكيد الأهمية الاستراتيجية لتركيا عدة مرات، ولا يمكن لحلف الناتو أن يتخلى عن تركيا ووضعها الجغرافي بين الشرق والغرب.