نشأة الكيمياء الحديثة – ذ. محمد أزرقان
عندما كنت طالبا في المستوى الأخير، مرحلة إعدادي، أشار علينا مدرس الكيمياء بقراءة كتاب عنوانه: لافوازييه، أبو الكيمياء الحديثة. هو مؤلف كتب خصيصا للمستويات التعليم الثانوي، يعرف فيه مؤلفه بنشأة الكيمياء ومراحل تطورها والدور الذي لعبه (لافوازييه) في تصحيح كثير من المفاهم والتصورات الخاطئة، وإدخال تحسينات على إجراء العمليات الكيميائية.
قرأت المؤلف من ألفه إلى ياءه، فأفدت منه كثيرا كأساس مهم لفهم مادة الكيمياء. ومنذ ذلك الحين صرت أرى في (لافوازييه) ذلك الكيميائي العظيم الذي أعطى مادة الكيمياء وجهتها الجديدة والحديثة.
ولاحقا عندما أتيحت لي فرصة بحث تاريخ علوم الكيمياء، توصلت إلى أن هذه الوجهة الحديثة للكيمياء التي يعتبرها بعض الباحثين من بنات أفكار (لا فوازييه)، لم تأتي من الفراغ، وإنما هي نتيجة لأفكار وبحوث وجهود امتدت عبر قرون طوال.
يرجع باحثي ومؤرخي العلوم ظهور الكيمياء إلى زمن ظهور الطب. فأول من فكر بعلم الكيمياء هم قدماء المصريين مثل (إيزيس) و (أوزيريس)، هاتان الشخصيتان الأسطوريتان اللتان يرجع لهما فضل فن المعالجة حوالي عام 3800 قبل الميلاد. ثم يأتي اليونان، فأورثوا الكيمياء عن قدماء المصريين، حيث نال علماءهم شهرة في بحث وتدوال علم الكيمياء حوالي عام 3000 قبل الميلاد. لذا نرى أن الحضارات، كل واحدة تأخذ عن الأخرى، وتضيف عليها الإضافات النافعة.
فعلم الكيمياء مر بحقبة من الزمن سادتها الخرافات والشعوذة، لم يتمكن علماء قدماء المصريين ولا اليونان من إنقاذ الكيمياء من فوضى السحر والخرافة، حتى جاء علماء المسلمين فحرروها من ذلك الضجيج الفاسد.
ساهم علماء المسلمين مساهمة جبارة في إرساء قواعد البحث الكيميائي بأسلوب علمي رزين ودقيق، حيث استندوا على التجربة العلمية، وإشراك الحس والعقل في آن واحد في الوصول إلى الحقائق العلمية. بينما علماء اليونان من قبل اعتمدوا على العقل والاستدلال المنطقي، وأهملوا الطريقة العلمية التجريبية التي تعتبر في العصر الحديث محور الارتكاز.
والمرء يستغرب حقا عندما يقرأ ما يكتبه الباحثون الغربيون بأن الطريقة التجريبية من ابتكارهم، ولا علاقة لها بالحضارة الاسلامية. ولهذا أعلن (جوزيف برواست) الفرنسي الذي أكمل بحوث (لافوازييه) بعد إعدامه، أن قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيميائي من ابتكاره هو وليس من ابتكار الكيميائي المسلم (الجلدكي). ومن ثم بدأ علماء الغرب يبلورون هذا الادعاء، حتى أصبح طلاب العلم في جميع أنحاء العالم يعتقدون ذلك. وعندما فند المخلصون للعلوم هذا الادعاء الباطل وردوا الابتكار إلى صاحبه (الجلدكي)، كان الرد من علماء الغرب المغرضين أن إنتاج (الجلدكي) في الكيمياء مغمور في مخطوطات متلاشية في المكتبات العامة.
فمخطوطات (الجلدكي) – بتعبير هؤلاء الباحثين – موجودة في المكتبات العامة، وهذا يعني أنها في متناول الباحثين للاطلاع عليها والاستفادة منها. و(جوزيف برواست) هو واحد من هؤلاء الباحثين، بل وحتى أستاذه (أنطوان لافوازييه) قد اطلعا على البحوث الرائدة (للجلدكي)، وخاصة كتابه (المصباح في علم المفتاح) المترجم إلى عدة لغات الغرب.
لا أدري مدى معرفة مدرس الكيمياء واطلاعه على هذه الأحداث التاريخية للعلوم، وهو المدرس الذي تتلمذت على يديه المبادئ الأولى لعلم الكيمياء بمنهجية جذابة ومحببة للمادة. وقد عرفنا الرجل بأهم علماء الكيمياء الغربيين واليونانيين، ولكن دون أن يشير ولو مرة إلى اسم عالم مسلم الذي ساهم في تطوير علم الكيمياء.
عندما كنت أتابع الدراسة بجامعة أمستردام، شعبة الرياضيات، حدثني أحد المدرسين، كنا في جلسة خاصة في مكتبه، عن عظمة مكتشف علم اللوغاريتمات (جوهان نابيير الأسكتلندي)، فقلت له هكذا عبثا أن كلامك غير صحيح تاريخيا… الصحيح أن تقول: إن (نابيير) ساهم في تطوير هذا الفرع من فروع علوم الرياضيات، لأن هناك علماء أفذاذ قبل (نابيير) كرسوا جهدهم وأوقفوا حياتهم على تطوير أسس علم اللوغاريتمات، مثل (ابن يونس الصدفي المصري) ولا حقا (ابن حمزة المغربي). لم يسمع الأستاذ الموقر عن هذين الاسمين قط… زاعما أن مكتشف اللوغاريتمات دون منازع (نابيير) وزميله (برجز).
إن الباحثين المنصفين لا تسمح لهم ضمائرهم بإنكار الجميل لرواد الحضارة الإسلامية الذين ساهموا في تطوير العلوم الرياضيات عبر التاريخ، منهم: الخوارزمي، والكندي، وثابت بن القرة، والبتاني، وأبو الوفاء البوزجاني، وابن الهيثم، والبيروني، وعمر الخيام، ونصير الدين الطوسي، وابن البناء، وغيرهم.
الخبير الاجتماعي ذ. محمد أزرقان