مفهوم الإنسانية في الإسلام – ذ. عبدالقادر الصالحي
مفهوم الإنسانية في الإسلام قائمة على أنه دين عالمي وليس لقوم بعينهم، وأن ميزان التفاضل فيه قائم على العمل الصالح والتقوى بعيدًا عن فخر ومجد الأنساب، وبأنه دين قائم على التسامح والرحمة والعدل في الحقوق والواجبات، ودعوته إلى تحرير النفوس من الذل وتعزيزه لمفهوم الكرامة والعزة.
ولكن للأسف كثيرًا ما نسمع من الناس، دعونا نترك الدين جانبًا ولِنكن إنسانيين مع بعضنا البعض ونجعل الدين في معزِل عن حياتنا وأن نبقيه في بيوتنا ومساجدنا معزولًا مقيدًا، لسنا بحاجة إليه في شؤون حياتنا ولا في معاملاتنا مع غيرنا. هذه شنشنة قديمة معلومة وهي شعارات رعناء ومطالبات هوجاء، كان أول من نادى بها شريحة عريضة من غير المسلمين ولكنها صارت كالنار في الهشيم، انتقلت كالعدوى إلى كثير من المسلمين في مختلف المجتمعات، بحيث صارت هذه الدعاوي في الآونة الأخيرة تُسمع من أفواه المسلمين أنفسهم في كثير من المناسبات.
إذن فمن يطالب بعزلِ الإسلام عن المعاملات والحياة وتركهِ مهجورًا في زوايا محدودة ضيقة وفي منأى عن حياة الإنسان، واستبدال الإنسانية به فهو قطعًا يجهل حقيقة الإسلام أو أن مطلبه نابع من نية فاسدة مبيتة.
ولو كنا حقا منصفين لوجدنا أن شرائع الإسلام هي أعظم من شرائع الإنسانية وأن الإسلام هو أكثر إنسانية من الإنسانية نفسها، لأن الإسلام هو أول من طبق وأوجد الإنسانية وشرع قوانينها ودعا إليها قولا وفعلا، بل وكرم الإنسان ورفع قيمتهُ وكرامتهُ. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء:70)
إذن لو نظرنا نظرة مدقق صادق لاكتشفنا أننأن الإنسانية جزء لا يتجزأ من دين الإسلام! وكيف لا؟! والإسلام هو وحدهُ من يُخلِصُك من عذابِ الآخرة. فالله عز وجل لا يريدُ للإنسان الشر ولا العذاب، والهدف من بعثة الأنبياء عليهم صلوات ربي وسلامه هو إخراج هذا الإنسان وإنقاذه من الذل إلى العزة ومن الخساسة إلى الكرامة ومن الظلمات إلى النور في جناتٍ يُسْعَدُ فيها أبد الآبدين. ولكن أن تكون إنسانيًا فحسب، هذا لا يضمنُ لك دخول الجنة واستمرار سعادتك وجني ثمار أخلاقك في الآخرة بل يجبُ أن تكون مسلمًا حقيقيًا مع الآخرين تُعاملهم بمبادئك الإسلامية وإنسانيتك المنبثقة من مشكاة الإسلام الذي هو نبع الحياة، وذلك كله ابتغاء وجه الله عز وجل.
وقد نمثل على ذلك بما جاء في مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: « يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعهُ؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وكذلك على سبيل المثال ما جاء في قصة سفانة بنت حاتم الطائي الذي كان يُضرب به المثل في الكرم أسرها المسلمون بعد فتح بلاد طئ في أجا وسلمى بمدينة حائل ولما قدمت مع الأسرى للرسول صلّ الله عليه وسلم وقالت له :
“يا محمد إن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فقد هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منّ الله عليك، فإن أبي كان سيد قومي، يفك العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ (الضعيف)، ويعين على نوائب الدهر، وما آتاه أحد بحاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي”.
فقال لها الرسول صلّ الله عليه وسلم ” هذه صفات المؤمنين حقًا ولو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه ثم قال للصحابة رضوان الله عليهم خلوا عنها فإن أباها كان يدعو إلى مكارم الأخلاق .
فهنا أكرمها الرسول وأعطاها مركوبا ومالا ورجعت إلى أهلها، وقالت لأخيها عدي بن حاتم: ائتِ هذا الرجل، فإني رأيت فيه خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، وإن يكن نبياً فلسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلا تزال في عزّ مُلكه. وقيل أنها أسلمت بعد ذلك.
إذن نفهم مما سبق أن الإسلام يحقق شروط الإنسانية لكن العكس غير صحيح، لأن الإسلام الصحيح يحث المسلم الحقيقي على أن يكون في قمة الإنسانية عند تعامله حتى مع غير المسلمين يحفظ لهم حقوقهم ويصون عرضهم ويحترم جوارهم ويحسن إليهم.
وخيرُ مثالٍ أذكره قِصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع (مسطح بن أثاثة) عندما اتهم مسطح ابنته عائشة (رضي الله عنها) بحادثة الإفك منع أبو بكر عن مسطح النفقة وقال أبو بكر: «والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا، ولا أنفعه بنفع أبدًا بعد الذي قال لعائشة». عندها نزل الأمر الرباني من السماء، أمر الله (الرحيم بكل عباده) إلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) لكي يأمر أبا بكر بإعادة ما كان يُنفقه على مسطح قبل هذه الحادثة. وقال الله تعالى في ذلك: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] .
وهنا تتجلى معاني الإنسانية كلها في الإسلام، فأن تكون إنسانيًا يمكن أن يندثر ذلك فوْر غضبك، لكن أن تكون إسلاميًا فذلك لن يقع، لأنك ستبقى وتظل تتعامل مع من حولك بأخلاق إسلامية عالية ولا ترضى الذل والهوان لا للمسلمين ولا لغيرهم، فالمسلم يأبى غير الكرامة والعزة له ولغيره ممن هم في جواره والحال نفسه في كل المجتمع الإسلامي الرفيع، حيث يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على عوراتهم وأسرارهم، ولا يوجد مبرر – مهما يكن – لانتهاك تلك الحرمات، وحتى ذريعة تَتَبُّع أي قضية من القضايا وإثباتها لا تصلح في نظامنا الإسلامي كمسوغ للتجسس على الناس، إلا إذا كان هذا الأخير يهدف إلى مصلحة المجتمع في تعاملها مثلا مع المجرمين، وتطهير المجتمعات من أهل الشرِّ والفساد، وملاحقتهم والتضييق عليهم من طرف الجهة المعنية بهذا الأمر.
وختامًا أقول مُقتبسًا من قول أحد العلماء: «الإسلام دين الرحمة والقوّة، والرحمة لا تعني الذلة والقوّة لا تعني الظلم، فكل رحمة في غير موضعها فهي ذلة وكل قوة في غير موضعها فهي ظلم». فأيها المسلمون كونوا مسلمين حقيقيين لا تميلوا حسب الأهواء لترضوا الناس وتتهاونوا في إرضاء رب الناس.
بقلم: عبدالقادر الصالحي (خبير تربوي)