معنى حب الانتماء للوطن؟ – ذ. عبدالقادر الصالحي
الوطن هو بمثابة الأم الحنون الحاضنة لأبنائها وتذوذ عنهم وتصونهم من كلّ سوء أو هي الخيمة الكبيرة التي تظلل أفرادها وتحصنهم من كلّ شيء، لهذا لا بد أن يشعر الإنسان بحب الانتماء وإلْفِهِ إلى وطنه بشكلٍ جبلي وحسي، وأن يكون هذا الحب وهذا الحس شغفا كبيرا يسري في عروقه ويختلج في كيانه ويلامس شغاف قلبه.
فالعلاقة بين المواطن ووطنه علاقة جدلية حميمة، تجد جذورها في الوِجدان والعاطفة، كلاهما بحاجة إلى الآخر؛ المواطن بحاجة إلى وطن يقدم له الحماية، ويصون له حقوقه كاملة، والوطن بحاجة إلى مواطنين يدافعون عنه ويحمونه من كل سوء.
لهذا فإنّ الانتماء للوطن لا يكون بالكلمات الرنانة والأشعار الفارغة والمدح الزائف، بل يكون بالاجتهاد المستمر والعمل الدؤوب في سبيل رفعته وشموخه وتثبيت أمنه، حتى يظلّ منارة للخير والأمان وإشعاعا للإبداع والتميز.
ففي البخاري عن أَنسٍ _رضي الله عنه_ أَنَّ النبيَّ _صلى الله عليه وسلم_: (كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا)، قال الحافظ ابن حجر _رحمه الله_ في” فتح الباري”: “وفي الحديث دلالةٌ على فضل المدينة، وعلى مشروعية حبِّ الوطن والحنين إليه”.
قال ابن الرومي:
وحبَّبَ أوطانَ الرجال إليهمُ مآربُ قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكرواْ أوطانهم ذكّرتهمُ عهودُ الصبا فيها فحنواْ لذلكا
علّمنا رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات وأتمّ التسليم كيف يكون حبّ الوطن، وكيف لا؟ وهو الذي قال عن مكة المكرّمة: (ما أَطْيَبَكِ من بلدٍ! وأَحَبَّكِ إليَّ! ولولا أن قومي أَخْرَجُونِي منكِ ما سَكَنْتُ غيرَكِ) (حديث صحيح)، فهذا الحديث الشريف الذي يدلّ على تعلّق النبي عليه الصلاة والسلام بوطنه، وحبّه العميق تجاهه، وحنينه الدائم له، فهو الذي وُلد فيه عليه السلام وشبّ فيه، فما حبّ الوطن إلا أن يكون أمرًا فطريًّا في نفس كلّ إنسان؟
إن الانتماء للوطن وصيانته والحفاظ عليه، هو قيمة إسلامية؛ فأوطاننا قطعة من جسد الإسلام، وأهله جزء من أجزائه، ومؤسساته جزء لا يتجزأ منها، أما عدم الانتماء، فإنه يولد الفتور والسلبية واللامبالاة، وعدم تحمُّل المسؤولية، ومِن ثَمَّ فالشعور بالانتماء يبدأ من مرحلة الطفولة التي هي أهم المراحل لغرْس المفاهيم والمعارف والقيم.
والمواطن الصالح هو من يعبّر ويدلي بحبّه لوطنه بالدفاع عنه في كل حين، والحفاظ على ممتلكاته العامة ومرافقه ونظافتها، فالانتماء الحق يمنع الإنسان من أن يقطع شجرة فيه أو يرمي القاذورات على الأرض، بل يحرص على أن يجعل بلده أخضر يتنفس الهواء النقي ليصير جنة على الأرض وارفة ظلاله متنوعة أزهاره، تسكب الفرحة والسعادة والأمن والأمان في قلب كل من زاره وسكنه.
وهو المواطن ذاته الذي يسعى للتعلّم ونيل الدرجات لتسخيرها مستقبلاً في إفادة وطنه، والعمل على تنمية مصانعه ومزارعه وشوارعه ومدارسه وجامعاته، ومحاولة خلق الابتكارات والإبداعات التي تسمو بسمعة الوطن إلى الأعلى، وتُسهم في تعزيز مكانته ومهابته بين الناس، كذلك بأن يكون أبناء الوطن يدًا واحدة تعمل معًا لأجله، وألّا يسمحوا لأي شيء أن يعكر صفو الأمن والأمان فيه.
إذن الانتماء الصادق للوطن يكون بالكد والكدح في جميع ميادينه، فالوطن مهما كان قاسيًا يظلّ أحنّ على أبنائه من بلاد الغربة.
فالاغتراب عن الوطن لا يوقف الانتماء إليه، بل يزيده بشكل كبير عندما يعكس المتغرب صورة جميلة عن دينه ووطنه بتعامله اللطيف المليء بمكارم الأخلاق والمبادئ السامية، والمرء دائم الشغف والشوق لوطنه وإن كان بعيدا عنه ببدنه، فقلبه متعلق به بإحساسه ووجدانه، لأن الكرامة الحقيقية تكون فيه، ومن يبتعد عن وطنه يفقد جزءًا كبيرًا من استقرار حياته، ويظلّ شعور الاغتراب ساكنًا في قلبه.
لهذا فإنّ الانتماء أيضًا يوجب على الآباء والأمهات والمعلمين أن يغرسوا في نفوس أبنائهم حب دينهم ووطنهم في كلّ وقت ومهما اختلفت الظروف والأحوال، وأن يزرعوا في قلوبهم حب العطاء وخدمة دينهم ووطنهم والرغبة في تمكين بلادهم من الوصول إلى العلياء لتلامس كواكب الجوزاء في سماء التقدم والازدهار.
وأخيرا فالحبُّ للوطن لا يقتصر على المشاعر والأحاسيس؛ بل يتجلَّى في الأقوال والأفعال، وأجمل ما يتجلى به حبُّ الوطن الدعاء. والدعاءُ تعبيرٌ صادق عن مكنون الفؤاد، لأنه علاقة مباشرة مع الله. ولقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة فقال: اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلتَ بمكة من البركة. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام – أنه دعا لمكة المكرمة بهذا الدعاء، قال الله – تعالى -: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».
ودعاء إبراهيمَ – عليه الصلاة والسلام – يُظهِر ما يفيض به قلبُه، مِن حبٍّ لمستقر عبادته، وموطن أهله. لقد دعا لمكة بالأمن والرِّزق، وهما أهم عوامل البقاء، وإذا فُقِد أحدُهما أو كلاهما فُقِدت مقوماتُ السعادة، فتُهجَر الأوطانُ، وتَعُود الديارُ خاليةً من مظاهر الحياة.
اللهم آمنا في أوطاننا واصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، اللهم إنا نسألك بقدرتك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين وبرحمتك أن لاتبق لنا هماً ولاحزنا ولاضيقاً ولاسقماً إلا فرجته، وإن أصبحنا بحزن فامسينا بفرح، وإن نمنا على ضيق فأيقظنا على فرج، وإن كنا بحاجه فلا تكلنا إلى سواك وأن تحفظنا لمن يحبنا وتحفظ لنا أحبتنا، اللهم إنك لا تُحٓمْل نفساً فوق طاقتها فلا تحملنا من كرب الحياة مالا طاقة لنا به وباعد بيننا وبين مصائب الدنيا وتقلب حوادثها كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم بشرنا بالخير والفرح والفرج وكشف الغمة..
آمين آمين آمين يارب العالمين
بقلم: عبدالقادر الصالحي (خبير تربوي)