معضلة السلف الصالح وسننية التاريخ – ذ. محمد أزرقان
يريد الوعاظ والشيوخ منا عبر منابرهم أن نتمسك بأخلاق السلف الصالح ونقتدي بهم ونتبع منهجهم بحذافيره لنفوز في الدنيا والآخرة.
وهذا المنطق المعوج، لم يفضي بنا إلى حل مشكلاتنا النفسية والاجتماعية. المسلمون الأوائل نجحوا ثم فشلوا، وما علينا نحن إلا أن ندرس عوامل النهضة والرقي وأسباب والفشل والسقوط في تاريخهم لكي نتعظ بها.
والذي يغيب عن أذهان هؤلاء الوعاظ هو أن كل نهضة اجتماعية لا تكاد تنهض حتى تسقط وتفشل. وهو قانون يسري على جميع الأمم وعبر كل الأزمان. وقول الرجل الحكيم (عمر بن الخطاب) بليغ في هذا المجال:”ألا إني قد سننت الاسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سديسا ثم بازلا. ألا فهل ينتظر من البازل إلا النقصان! ألا فإن الاسلام قد بزل..”.
شبه (عمر الفاروق) الاسلام بالبعير، فهو ينمو ويتطور في بدايته ثم يناله الهرم والفناء أخيرا. والمقصود بالفناء هنا هو فناء الروح والعقل عندما يخبوان ويتوقفان عن العطاء والانتاج كحال المسلمين حاليا. وبهذا يكون (عمر) قد اكتشف دورة التاريخ الخالدة (صعود – نزول) قبل أن يكتشفها المؤرخون المعاصرون.
تفوه (عمر بن الخطاب) بهذا القول أيام انتشار الاسلام وانتصاره على أعدائه. فبدلا أن يعتز ويفرح بما تحقق للاسلام من التمكين في الأرض، ابتئس وتخوف. فما هو السبب يا ترى؟
لم يقف الوعاظ ولا المؤرخون عند هذا القول الذي صدر عن عمر بن الخطاب ليتأملوه ويدرسوه، بل هم يمرون به مرور الكرام ولم يكترثوا به. والواقع أنه قول يدل على بعد نظر وحكمة بليغة، يؤيده علم التاريخ الحديث إلى أبعد حد، كان على المسلمين أن يبحثوه ويدرسوه لفهم القانون الذي يحكم تطور وازدهار المجتمعات ثم سقوطها واندثارها.
كافح الرعيل الأول الظلم والترف والاستبداد زمان النبي محمد (ص)، ولكن عندما بدأت الغنائم الكثيرة ترد إليهم نسوا هذه المهمة الجوهرية للدين وأصيبوا بالترف والبذخ وصاروا بحاجة إلى من يكافحهم.
يقول أبو يوسف في كتابه الخراج:”عندما جاؤوا بغنائم فارس إلى عمر كشف عنها فرأى فيها ما لا ترى عيناه مثله من الجوهر واللؤلؤ والذهب والفضة، فبكى الرجل. فقال له عبد الرحمان بن عوف:”هذا من مواقف الشكر، فما يبكيك؟” فقال عمر:”أجل، ولكن الله لم يعط قوما هذا إلا ألقى بينهم العداوة والبغضاء..”
لقد أدرك (عمر الفاروق) بحكمته أن الاسلام مقبل على طور آخر من دعوته – يسميه المفكر الاجتماعي الجزائري (مالك بن نبي) بطور العقل- وأن دولته التي يحكمها ستصبح كسائر الدول التي مرت في التاريخ، تجبى لها الأموال وتحشد في سبيلها الجنود وتضرب من أجلها السياط على ظهور المستضعفين والمستعبدين من الناس. وهذا ما حدث في التاريخ عندما بدأ بنو أمية تكريس الاضطهاد والاستبداد وقتل المخالفين لهم في الرأي والمذهب.
والوعاظ يقولون لنا: تمسكوا بسيرة السلف الصالح لتفلحوا وتحل جميع مشاكلكم الأخلاقية والاجتماعية، ظانين أن الحسن حسن على الدوام والقبيح يبقى قبيحا إلى يوم القيامة. وهذا منطق مثالي أرسطي لا ينفعنا في التصدي لواقعنا الاجتماعي ومشاكلنا الأخلاقية. وفلسفة علم الاجتماع الحديث يستخف هذه الآراء ويعتبرها منطق الضعفاء، تجاوزه الزمن منذ أن وضع (ابن خلدون) في مقدمته أولى اللبنات للمنطق الجديد (المنطق الاستقرائي).
ونحن في هذه الاشارات لم نقصد ذم المسلمين الأوائل الذين جاهدوا مع رسول الانسانية (ص)، بل نحاول فهم جوانب نجاحهم وفشلهم، لأنهم بشر كغيرهم من الناس، تنطبق عليهم السنن والقوانين الاجتماعية،”..فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا..” (س. فاطر). فهذه الآية تشير بوضوح إلى القانون الاجتماعي الذي يسري على الجميع ويخضع له الجميع دون اشتثناء.
فهؤلاء القوم الذين يتزعمون المجامع والمؤسسات الدينية يريدون منا أن ندرس منشأ الاسلام ونبارك نهضته الأولى باعتبار أنها نهضة خالدة لا تتبدل ولا تتغير. والرسول (ص) جاء بدعوة اجتماعية بنى شبكة علاقتها الاجتماعية على الأسس السننية للنفس والمجتمع.
كان الرسول الأكرم يعلم علم اليقين أن التاريخ يسير بخطوات متتابعة، كل خطوة تعقبها خطوات أخرى على توالي الأجيال دون توقف. وهو الذي صرح بأن الاسلام سيرجع غريبا كما بدأ أول مرة. وفي حديث آخر كان يقول لأصحابه بأنهم سيتبعون سنن من كان قبلهم من الأمم حذو النعل بالنعل، وأنهم سينقلبون بعده. وفي أواخر أيامه كان يتوقع ظهورالفتن كما توقعها خليفته الحكيم عمر الفاروق.
وعندما مرض الرسول (ص) مرضه الأخير خرج إلى المسجد معصوب الرأس متوكئا على علي والفضل بن عباس فوقف خطيبا في الناس بصوت مرتفع حتى سمعه من كان خارج المسجد وقال:”أيها الناس، سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم..”
والمتأمل في هذه الأقوال والأحاديث للنبي الأعظم (ص) لا يملك إلا أن يتساءل: من الذي جعل الرسول (ص) يتشاءم كل هذا التشاءم؟ مع أنه كان منتصرا ودخل الناس أفوجا أفواجا في دينه. موقف محير حقا!
ونحسب أن هذه الأحاديث هي استقراء لطبيعة تطور واندثار الأمم عبر التاريخ. فكل حركة تنمو لابد من انتقاصها عاجلا أو آجلا. وكل صعود لا بد له من نزول.
ينبغي علينا كمسلمين أن نبحث سر تفوق المسلمين في البداية وأسباب فتنتهم وأمراضهم الاجتماعية لنستفيد من هذه الأحداث والوقائع التاريخية عوض أن يبقى هؤلاء الوعاظ والزعماء يسمعوننا: “اتبعوا منهج السلف الصالح لتفلحوا..”.