معركة صفين وتداعياتها السياسية والاجتماعية – ذ. محمد أزرقان
ذ. محمد أزرقان/ هولندا
من السنن التي لا تبديل ولا تحويل لها أن التاريخ يعيد نفسه كما تعيد الشمش كرتها من نقطة الانطلاق. فالأمة عندما تكون في أوج عزتها يسجل التاريخ مآثرها العظيمة ومفاخرها الكريمة. وأما عندما تصاب بعلة تضخم الذات والجدالات العقيمة يحيلها إلى الهامش ويسلمها إلى نوم عميق.
إن أعظم خطإ وقعنا فيه هو جهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا. بل أكبر أخطاء النخبة المثقفة والسياسية أنهم يهملون هذه الركيزة الاجتماعية. وهنا تكمن المشكلة، ويخرج قطارنا عن طريقه السوي حيث يسير خبط عشوائي.
إن الكارثة التي أصابت النهضة الاسلامية في واقعة صفين غيرت النهج النبوي في المدينة، المشحون بهدي الروح ومبادىء العدالة الاجتماعية إلى جو ديمشق حيث تجمعت مظاهر الترف وتضخم الذات وفتور الروح والايمان.
وكارثة صفين يجب أن تدرس في ضوء دراسات التاريخ الحديثة بعيدا عن تقديس شخص الامام علي أو شخص معاية ابن سفيان كما يحدث في وقتنا الحاضر في الصراع العقائدي الشيعي السني. إن جوهر النزاع بين الامام علي ومعاوية هو نزاع بين مبدأين متضادين، أحدهما يدعو إلى العدالة الاجتماعية وإلغاء الاقطاع وخلق أجواء حرية التعبير والتفكير، والآخر يريد تكريس الاستبداد وتقسيم أموال الأمة كما يحلو للسلطان وتقتضيه مصلحته الخاصة.
و دراسة هذا الصراع التاريخي دراسة عقلانية محايدة سوف تفيدونا في حياتنا الأخلاقية الحاضرة وتلقي ضوءا على ما نعاني اليوم من مشكلات اجتماعية سياسية معقدة. إن الاستبداد والظلم الاجتماعي ومصادرة حرية الرأي والفكر التي نعانيها اليوم تعود أسبابها إلى هذه الكارثة التي حلت بالمسلمين بصفين.
فالذين يحسبون على السنة والجماعة يحسرون النزاع بين الامام علي ومعاوية في قضايا اجتهادية: يرون أن عليا كان مصيبا في اجتهاده ومعاوية كان مخطئا، والمجتهد مثاب مأجور حين يخطأ وحين يصيب. فالمسالة إذن عند هؤلاء الأئمة والمؤرخين مسألة اجتهاد ورؤى رآها الامام علي ومعاوية وكفى !
وأما الذين يحسبون على الطائفة الشيعية فينظرون إليه أنه صراع بين مؤمن ومنافق بحيث تحول هذا الصراع عبر التاريخ إلى صراع بين الشيعة والسنة كما حدث في الحرب الخليجية الأولى وكما نراه اليوم في العراق وسوريا، تقدم في سبيله آلاف من القرابين البشرية.
يقول العالم الاجتماعي العراقي (علي الوردي):”صار علي بن أبي طالب في نظر الشيعة مجرد إمام أوجب الله حبه على العباد. أما ذلك الكفاح الجبار الذي قام به في سبيل العدالة الاجتماعية فلا أهمية له عندهم. فهم يفضلون ناصر الدين شاه على هارون الرشيد مثلا. وحجتهم في ذلك أن الأول كان يأتي إلى قبر الحسين بن علي زائرا خاضعا متواضعا ويأمر بتشيد قبره بينما كان الثاني يؤذي زوار قبر الحسين ويضطهد أبناء علي”.
لم يقف علماء كلا المذهبين – للأسف –عند المبادىء الاجتماعية بالدراسة والبحث التي كان الامام علي يريد ترسيخها في المجتمع الاسلامي. فالسنة اعتبرت القضية قضية اجتهاد، وأما الشيعة فأضفت القداسة على شخص علي وابنه الحسين وجعلت منها عقيدة من عقائدها.
بينما جوهر الصراع بين الامام علي ومعاوية هو تأصيل لحرية الفكر في نفسية المجتمع الاسلامي الناشىء ومقاومة الاستبداد وتقسيم خيرات الأمة بالعدل. يخبرنا التاريخ أن محمدا (ص) وأبا بكر وعمر بن الخطاب كانوا يتحرجون أشد الحرج في أن يأخذوا من هذه الخيرات شيئأ لأنفسهم وذويهم. وماتوا وهم لا يملكون من حياتهم ودنياهم سوى الثوب المرقع.
كان الامام علي عندما آلت إليه الخلافة، يريد إتمام مشوار المبادىء الاجتماعية الذي بدأه محمد (ص) وأبو بكر وعمر لترسخ في النفوس بحيث تصير سلوكا للمجتمع الاسلامي الوليد. ولكن الظرف التاريخي لم يسعفه، لأن أغلبية المجتمع الاسلامي لم تكن ناضخة ومتشبعة تشبعا كافيا بمبادىء الاسلام الكبرى المصيرية فضاعت الدولة الاسلامية العادلة والديمقراطية.
انتصر معاوية في معركة صفين واتخذ من دمشق عاصمة الخلافة الاسلامية ولكنها خلافة كسروية مستبدة غير عادلة. الدولة الأموية التي أسسها معاوية كانت دولة طبقية: فقبيلة قريش عنده أفضل من بقية قبائل العرب، والعرب أفضل وأقرب إليه من المسلمين الغير العرب (الموالي)، والمسلمون الغير العرب أو الموالي أفضل من الذميين (أهل الكتاب)، والذميون أفضل من الكفار واللادينيين، والكفار في عرف الدولة الأموية جزاءهم القتل والتنكيل بهم.
بينما الامام علي كان يمقت ويكره أن يرى مجتمعا مقسما إلى طبقات بحسب النسب أو الدين. ومن يقرأ سيرته يجد معاملته لرعاياه كخليفة، تختلف كل الاختلاف عن تلك المعاملة لمعاية. كان الرجل متواضعا يحترم في الانسان كرامته بغض النظر عن نسبه أو لونه أو دينه. وبذلك يكون قد ترجم معاني المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي محمد (ص) في حجة الوداع:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى..” إلى الواقع العملي. لم يفرق الامام علي بين العرب والموالي، ولا بين المسلمين والذميين، وحتى اللادنيين والكفار لم يكن يحب محاربتهم قبل مواجهة الظالمين والمستبدين من المسلمين.
مات الامام علي في معركة صفين بضربة قاضية من (ابن ملجم) على رأسه فهتف قائلا:”فزت ورب الكعبة”. ذهب شهيدا إلى ربه ولكن مواقفه ومبادئه وأفكاره مكثت في الأرض تنفع الناس وتستلهم المصلحين والثوار.
لم يعرف الناس قدر الامام علي وعدله وقيمه الانسانية في عهد حكمه، فلما رحل عن هذه الدنيا وتولى زمام أمور الرعية بعده حكام مستبدون ظلمة، أدرك الناس أنهم خسروا رجلا عادلا لا يعوض بثمن.
وشاءت الأقدار أن يتولى حكم بلاد العراق بعد موت الامام علي رجل يسمى (الحجاج بن يوسف الثقفي). كان الحجاج ظالما مستبدا طاغيا مفسدا في الأرض. وكان بالاضافة إلى ظلمه واستبداده، يكره الامام علي أشد الكراهية. وقد اشتد في مطاردة أنصاره وفي تعذيبهم وقتلهم إلى أن وصل به الحد أن تمنى أن يقال له: زنديق أو كافر ولا يقال له أنه محب للامام علي.
أدت سياسة هذا المجرم إلى تخريب البلاد والعباد في العراق. كان همه جباية الضرائب (الخراج) وإهمال عمارة الأرض، والنتيجة كانت، خراب العراق خرابا اقتصاديا لا مثيل له في التاريخ الاسلامي.
كتب ابن خرداذبه في كتابه المسالك والممالك يقول:”إن الخراج انحط في عصر الحجاج انحطاطا لا نظير له لعسفه وخرقه وظلمه”. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى والي الكوفة يقول له:”سلام عليك، أما بعد: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء شديد وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة استنها عمال السوء…”.
ومن المؤسف له أن المؤرخين لم يروا في كارثة صفين إلا ظاهرة نشوء التشيع في العالم الاسلامي، مع تداولهم لحديث الرسول (ص) الذي ورد فيه ما معناه:”أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا”. بينما جوهر المشكلة – كما أسلفنا – هو الصراع بين العدل وبين الظلم، أو بين حرية الفكر وبين مصادرة الرأي.. والرأي الآخر، أو بين نشر الوعي لتتداول السلطة بالشورى والديمقراطية وبين شراء الهمم للانفراد بالسلطة وجعلها وراثية. بل السؤال المطروح على الباحثين الاجتماعيين والمؤرخين المسلمين: لماذا انهزم الامام علي الذي كان يحمل مشروع العدالة الاجتماعية والديمقراطية وانتصرغلمان بني أمية الذين كرسوا الاستبداد وقتلوا من كان يخالفهم الرأي؟