مشكلة الفكر السلفي – ذ. محمد أزرقان
يرد القرآن في مواضع شتى أن الآبائية آفة تعطل العقل عن التفكير عند مواجهة القضايا الاجتماعية – التاريخية. فيصاب الانسان المسلم بالفتور والشلال ويعجزعن المشاركة في مسايرة أحداث العصر وصنع التاريخ.
إن القرآن حينما ذم الآبائية، لم يقصد بها قريش وعبادة أصنام آبائهم وتماثيلهم، بل هو يقصد آبائية الفكر والثقافة. وفقهاء السلف منذ عصور الانحطاط إلى اليوم يقولون لنا: خذوا بالسنة المطهرة لتفلحوا في الدنيا والآخرة، وهم يكثرون من إيراد هذه النصوص للسنة في كل محفل من محافلهم ومنابرهم. وطال بهم المقام، وهم يرددون ما أنتجه هؤلاء الفقهاء وحفظة الأحاديث، ظانين أن هذه النصوص للسنة تكفي لإخراج المسلم من تخلفه ولا فعاليته. وكما يقول المفكر خالص جلبي:” وقد طال علينا الأمد وبقينا في رحم الآباء بدون القدرة على الولادة والخروج إلى العالم الجديد. ومعروف في ميدان الطب أن الجنين الذي يبقى في الرحم أكثر من أجله تموت الأم والجنين معا”.
التراث الفكري والفقهي الذي أنتجه عظماء المفكرين والفلاسفة والفقهاء يجب أن نقرأه بروح نقدية وليس بروح تقليدية. وإن لم نقرأه بآلية النقد وبأدوات جديدة التي زودتنا بها عبقرية العصر، فمرض الأمة باق لن يزول. ونحن نثني على النفس ونقدس الزعماء والشيوخ في كل محفل ونصرخ بالروح والدم نفديك يازعيم! بالروح والدم نفديك ياشيخ!
وشخصية مثل محمد ابن عبد الوهاب أو ابن تيمية أصبحت مقدسة ومتعالية فوق النقد، ولم تنمو عندنا بعد آلية النقد الذاتي وإعادة النظر في إنتاج فكرهم.
إن ظلم النفس هي فلسفة قرآنية، ولكن الفكر السلفي يتهم الكافرين والمارقين والمخالفين له في الفكر أنهم سبب تخلفنا وانحطاطنا، كمن يتهم الجراثيم أنها سبب المرض، ويغيب عنه أن جهاز المناعة هو مشكل المشكلات. وانهيار جهاز المناعة الداخلي أدى إلى ظهور أمراض نفسية-اجتماعية خطيرة، مزقت نسيج جسم الأمة، ومنها تورط السلفيين بالعنف والقتل والتكفير، باستخدام نصوص آيات الجهاد لتبرير قتل المخالفين لهم في الفكر والعقيدة، مع أن الجهاد لا علاقة له بالصراع العقائدي، بل وظيفته هي دفع الظلم عن الانسان وإقامة العدل، وبالتالي خلق مجتمع لاإكراه، تسود فيه قيم حرية الفكر والاعتقاد والتسامح الديني.
وحيث الفكر السلفي، توقف العقل عن الحركة والتفكير ونشط العنف والتكفير. ولا تجتمع حرية الاعتقاد مع التكفير والعنف واللاتسامح. والفكر السلفي يحدث ضجيجا ويثير معارك حول تفسير السنة والقرآن، ومن لا يأخذ بتفسيرهم، يعتبر في نظرهم خارجا عن الدين وعقيدته فاسدة، بينما التفسير الفعلي للقرآن والسنة ليس إنتاج الفقهاء والعلماء، بل أيات الآفاق والأنفس التي تعتبر بحق مصدر من مصادر المعرفة البشرية:”سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟”.
ولكي نستطيع ولوج أبواب الحقل المعرفي للعصر، لا بد لنا من فهم بنيته الفكرية واكتساب أدواته. ولفهم النص القرآني، لا بد من استخدام العلوم الإنسانية المساعدة. فلا يمكن فهم القرآن بتفسير ابن كثير أو الطبري فقط.
ومشكلة العالم العربي والاسلامي ليست مشكلة فقهية – دينية، بل هي مشكلة سياسية بامتياز. والشأن الديني عندما يختلط بالشأن السياسي، ينشأ عنه الانفراد بالرأي وتجريم المخالفين في الرأي وتكفيرهم باستخدام النصوص الدينية. وهو مرض قديم عندما ضاعت الخلافة الراشدة ونجح الانقلابيون الأمويون في تحويل الحكم الراشدي إلى غي والخلافة إلى ملك بيزنطي استبدادي. وعند هذا الانكسار بدأ انحدار الأمة إلى الأسفل حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. لم يبقى من الأمة إلا الجثة المتفسخة تمشي باتجاه التحلل يتناوب على افتراسها صنوف من الدود والذباب -على حد تعبير المفكر خالص جلبي-. وموت الأمة لا يعني موت الاسلام، لأن الاسلام هو منظومة قيم ومبادىء قابلة للتحقيق على أرض الواقع، غير مرتبطة بالزمان والمكان، إذا فهمنا فك لغز هذه المنظومة. وأي أمة التزمت بقدر من هذه القيم، حققت الاسلام بهذا القدر. وبلاد هولندا التي نعيش فيها أقرب إلى الاسلام من إسلام دول الخليج.
وباختصار، المذهب السلفي ينظر في الأحداث الاجتماعية بمنظار قديم: الحسن حسن على الدوام والقبيح يبقى قبيحا إلى يوم القيامة. ولكن المنطق التاريخي – الاجتماعي الحديث يرى أن الحسن لا يبقى حسنا إلى الأبد. إنه في حركة تطور وتغيير مستمر. فما كان حسنا بالأمس قد يصير قبيحا اليوم. سنة الله في خلقه. وهذا ما لم يتفطن له شيوخ المذهب السلفي ويغيب عن أذهانهم، فيصر التاريخ عندهم واقفا ساكنا لا يتحرك.
كان النبي محمد (ص) يعلم علم اليقين أن التاريخ يسير بخطوات متتابعة وثابتة لا يحيد عنها أبدا. دورة التاريخ الخالدة -على حد تعبير مؤرخي الحضارات المعاصرين الذين قاموا بدراسة حركية ودينامكية المجتمعات -. والسلفية ترى أن فهم السلف والأخذ بنصوص السنة يكفي لتحل جميع مشاكلنا النفسية والاجتماعية. وهذا الفكر الجامد المتقوقع على نفسه لم يجلب لنا إلا التكفير وقتل الأبراء في المطارات ومحطات قطار الأنفاق. “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون”.
ذ. محمد أزرقان / هولندا