مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة الثالثة

كان للوالد إخوة كثر من أمه، متزوجون ولهم أبناء، يعيشون ظروفا صعبة وعسيرة لا يجدون ما يقتاتون ويسدون به جوعتهم وجوعة أبنائهم، لا عمل، لا شغل ولا أرض يملكونها للزراعة، بالإضافة إلى ذلك أن الاستعمار الإسباني كان قد أحكم قبضته على المنطقة، ولم يحدث أو ينشأ مشاريع لخلق بعض فرص للعمل وإصلاح أراضي للزراعة، أو قل مساعدة أهالي البلدة على إنشاء مشاريع من هذا القبيل. كانت سياسة الحاكم الإسباني في مدريد سياسة استغلال وتحطيم معنويات أهالي البلدة ومزيد من السيطرة على خيرات المنطقة.

إن المنطقة التي تقع فيه بلدة بني حذيفة منطقة بنيتها جبلية، ليست منطقة صالحة للزراعة. فالأهالي الذين يملكون بعض قطع الأراضي، مردودها ومحصولها الزراعي قليل، لا يكفي لسد حاجياتهم الغذائية، لأن طبيعة هذه الأراضي وعرة، تحتاج إلى استصلاح وتوعية وعمل جماعي. وهذه القدرات لا يملكونها الأهالي وفوق طاقتهم، وبالتالي يبقى مردودها محدودا لا يكفي لإشباع جوعتهم. وأما الذين لا يملكون شيئا فكان الهلاك هو مصيرهم.

إخوة الوالد من الصنف الذي لا يملك شيئا. ومن طبيعة الإنسان الذي لا يجد ما يسد به رمقه، يلجأ إلى السطو والسرقة والتعدي على أرزاق الآخرين. وهذا ما حصل للوالد مع إخوته.

كان هؤلاء الإخوة ينقمون على الوالدة أشد نقمة، تارة بإثارة الجيران والناس ضدها وأخيها، وتارة أخرى بالتعدي عليها وعلى أخيها بالسخط والشتائم وكلام بذيء، بل الأمر وصل إلى حد استعمال العنف. تعرض الوالد للضرب المبرح من قبلهم، كاد أن يودي بحياته ويقضي عليه.

تحول الاستقرار الذي كان تنعم به الوالدة وأسرتها الصغيرة والناشئة إلى جحيم وعذاب لعقود عدة. ومما زاد الطين بلة هو أن هؤلاء الإخوة بعد الصلح مع الوالد، كانوا لا يدخرون جهدا لإثارته ضد الوالدة عندما يكون في إجازة، فتتحول فرحة الإجازة إلى نقمة وقطعة عذاب بالنسبة للوالدة.

واجهت الوالدة مشهدا آخر من معاناة وعذابات لا إنسانية، تشبه تلك المرحلة المتعسفة والمهينة التي عاشتها وعانتها مع أعمامها قبل زواجها. تحكي الوالدة قصة هذا المشهد من معاناة حياتها أن الوالد بسبب الوشايات والإثارات التي كان يتعرض لها من قبل إخوته وأعمامه وأبناء الأعمام، يصير إنسانا آخر، بمزاج غير معتاد. يتصرف معها تصرفا لا يليق وغير إنساني ومعاملتها بسلوك غريب وعنيف إلى حد إهمال أسرته واعتبار الوالدة أنها سبب المشاكل وإفساد العلاقة مع إخوته وأعمامه.

لم يكن للوالدة بد إلا الصبر والثبات والتحمل من أجل أبنائها والجهد الذي بذلته لتحسين الحالة المعيشية للأسرة وتغطية المصارف الأساسية للحياة من مأكل ومشرب وملبس. وهذا لم يكن يحصل إلا بفضل بذل جهد الوالد وتحمل صعاب الخدمة العسكرية. وهذا الفضل لم تنكره الوالدة له. وما كان يحز في نفسها هو عدم اعتراف الوالد لها بالجميل والمشاركة في بناء الأسرة والعمل على حفظها من الضياع والهلاك.

إن هذه الظروف القاسية والحالة التي تعرضت لها في حياتها، إضافة إلى الظروف الصعبة التي قاستها في طفولتها مع الأعمام، شكلت لها إعاقة نفسية خطيرة أدت ثمنها بقية حياتها: بدأت تشكو من متاعب صحية لم ينتبه لها أحد ولم تأخذ شكواها بجدية. ومنذ أن كانت تربي ابنها الثاني بدأت تشكو من علل وأمراض لا تعرف كنهها وطبيعتها ولا أحد يسمع لشكواها ومرضها.

ولكن في خضم هذه الظروف الصعبة، لم يكن لها اختيار إلا أن تواجه مصير حياتها وحدها. ذهبت المسكينة ضحية وشايات الأقارب وأبناء عمومتها. تفرق الناس من حولها واعتزلوها وصارت تعيش حياة شبه منعزلة عن المحيط الذي تحيا فيه. لم تستسلم لضغوطات المجتمع وتصدع العلاقة الزوجية بسبب سلوك الوالد الذي كان يميل ويفضل عائلته عليها إلى درجة استعمال العنف، فناضلت على الجبهتين: الداخلية والخارجية.

الداخلية، كان عليها أن تصبر وتهادن الوالد رغم ما تتلقى منه من معاملة الغير اللائقة واللاإنسانية. وأما الجبهة الخارجية، فكان عليها أن تعمل على إصلاح علاقتها الاجتماعية التي أفسدتها وشايات شياطين البشر من الأقارب وغير الأقارب.

وعندما ترجع بي الذاكرة إلى الوراء، وأتأمل فيما كانت تقصه علينا من أحاديث يوم كنا نتحلق حولها في ليالي فصل الشتاء الباردة، أجد أن هذه السيدة كانت لها الحكمة والعقل في التصرف والتصدي للمشاكل التي تعرضت لها.

إن قساوة الحياة التي عاشتها، علمتها كيفية احتواء هذه المشاكل كلها، والتصرف معها تصرفا يفضي غالب الأحيان إلى الإبقاء على حياتها ورزق أسرتها. وليس من السهل ومن الهين أن يتصرف المرء هذا التصرف الحكيم في مواجهة المشاكل التي تعرضت لها الوالدة بهذا الكم. الوالدة امرأة أمية، لا تقرأ ولا تكتب، ولكن تصاريف الزمن علمتها أن تواجه مصيرها ومصير أسرتها الناشئة بحكمة وروية وصبر، رغم الظلم والتعدي الصارخ على حقوقها الإنسانية. كانت معروفة بهذه الصفات في التصرف ومعالجة المشاكل. كنت أسمع هذا من الأقارب والمعارف عند الحديث عنها. وعندما قضت نحبها سنة 1990م، كنت في زيارة لمدينة (دنهاخ = لاهاي)، التقيت صدفة أحد آهالي بلدة بني حذيفة، فقال مما قاله لي بعد تقديمه التعزية: إن والدتك أساء الناس إليها، فعانت كثيرا ومرضت مرضا عضالا، نهش جسدها طول عمرها، ثم بكى الرجل. والواقع أن هذا السيد فاجأني بكلامه وبكائه.

إن قصة هذه المرأة وقصة معاناتها هي قصة مأساة إنسان بالدرجة الأولى، قبل أن تكون قصة معاناة الوالدة التي حملتني في بطنها تسعة أشهر، ثم ربتني وقاست وسهرت من أجلي حتى صرت ما صرت إليه الآن.

إن أقل القليل الذي أستطيع ان أقدمه لهذه السيدة هو أن أروي قصتها وأسجلها ضمن هذا المذكرات، ربما كتب لها أن تنشر يوما ما على صفحات كتاب لتقرأ، ويرى القارئ مدى الظلم الذي يوقعه الإنسان على أخيه الإنسان.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *