مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة الثانية
عاشت الوالدة مرحلة طفولتها ولاحقا مرحلة زواجها في ظل الاستعمار الإسباني. ولم تفت الوالدة أحداث هذه المرحلة وتأثيراتها على العادات الاجتماعية للبلدة لتقصها علينا بكل تفاصيلها.
شهدت البلدة تدهورا أبلغ في الوضوح على الصعيد الاجتماعي. وكانت بلدة بني حذيفة ما تزال تحافظ على مظاهر التقاليد التي ورثتها الأجيال عن الآباء والأجداد، إلا أنها قد بدأ يعتريها التغيير: الاحتفالات، والزواج، ومراسم الدفن، والأعياد، واجتماعات الرقية وطرد الأرواح الشريرة، وحتى حلقات الذكر عند مختلف الفرق الصوفية في ظل الاستعمار، بدأ يعتريها التغيير وإعراض الناس عنها بما فيهم الأعضاء أنفسهم.
كان أحد أعمام الوالدة مريدا وعضوا مهما في إحدى هذه الفرق الصوفية. والوالدة منذ أن كانت طفلة صغيرة وعمها يأخذها معه لحضور هذه الحلقات والتزود من نفحاتها وبركاتها.
بالنسبة للوالدة كانت هذه الحلقات ذات فائدة روحية كبيرة لها بسبب ما كانت تتعرض له من سوء المعاملة وقساوة الحياة.
وبعد مرور ما يزيد عن عقدين من الزمن على قضاء نحبها، وأنا أخط سطور هذه المذكرات، أجد أن هذه الفترة التي عانت فيها الوالدة تجربة روحية تشبه كثيرا أو قليلا التجربة التي عانيتها نفسيا عندما هاجرت إلى بلاد هولندا حيث واجهت مشهدا من المعاناة والصراعات النفسية.
وبسبب الاستعمار وقوانينه المفروضة على سكان البلدة، عرفت كثير من تقاليد البلدة تراجعا كبيرا بحيث احتفظ بالمظاهر فيما فقد الجوهر، بما فيها التظاهرات والاحتفالات الصوفية التي كانت تعقد بحماسة وانضباط. كانت الوالدة تقص علينا هذه التجربة وهي تبدي أسفها عن تراجع العطاء الروحي لهذه الحلقات وإعراض الناس عنها.
ولم تفت الوالدة أن تقص علينا مظهر القرية التي بدأت فيها البنايات العتيقة المبنية بالطين والخشب تتحول إلى بنيات شيدت بالإسمنت والرخام ذات الوجهات الجميلة. وهذه البنيات اتخذها الاستعمار ثكنات للجيش والمدارس التعليمية والمطاعم والحانات والمخازن.. . وطبعا هذا التغيير والتحول له انعكاس على نفسية الوالدة وجيلها من أهل البلدة. فحياة السكان الأصليين أخذت تتقلص لتنعزل في مرافق وأماكن محدودة في القرية.
وفي هذه المرحلة بالذات كان المستعمر قد بدأ حملة تجنيد المجندين لتعزيز صفوف قوته وإحكام قبضته على المنطقة والتمكين لوجوده فيها، بعد خوض معارك ضارية ضد طلائع المجاهدين. وضمن قائمة أسماء المجندين الذين قوبلوا بالانضمام إلى صفوف قوة جنوده كان اسم الوالد.
امتهن الوالد مهنة الجندبة بسبب عسر الحياة والفقر المدقع الذي عانى من ويلاته. مات أبوه وهو لازال طفلا صغيرا ثم تزوجت أمه من عمه فعانى الإهمال والجوع والحرمان. وعندما تزوج الوالدة كان لم يملك شيئا يعول به أسرته. واجهت الوالدة في بداية زواجها مشقة وصعوبة الحياة بروح مثابره وعمل متواصل لتوطيد دعائم الأسرة الناشئة.
وبعد فترة الإعداد والتدريب انضم الوالد إلى صفوف قوات الجنود الإسبان المتمركزة في بلدة بني حذيفة، حيث باشر عمله بتقاضي أجرة زهيدة، استطاع بفضلها بناء بيت متواضع يأويه، ولاحقا عندما تحسنت الظروف المادية اشترى بعض القطع الأرضية يحرثها ويزرعها لإعالة وحماية أسرته من شبح الجوع، في فترة كان الناس فيها يغاثون وفيها يعصرون بسبب المجاعة التي اجتاحت المنطقة.
تولت الوالدة إدارة شؤون البيت والأسرة وخدمة الأرض وزراعتها، يساعدها في ذلك أخوها الصغير، انضم إلى أسرتها لينجو من هلاك المجاعة وشدة الإهمال من قبل أعمامه. وأما بقية إخوتها فكان مصيرهم الهجرة ومغادرة البلدة بسبب المجاعة التي ضربت البلدة.
وكان الوالد قبل مغادرته البلاد بعيدا مع كتيبة الجيش الذي يعمل تحت لوائها، قد اشترى دابتين ليستعين بهما أخ الوالدة على خدمة الأرض وحراثتها، بمساعدة الوالدة. لم يكن من السهل على الوالدة لتتولى مهمة شؤون البيت ومساعدة أخيها في حقول الزراعة. وفي هذه الفترة ولد ابنها الأول، فازداد الحمل ثقلا وصعوبة، ولكن عندما تلتفت حولها وترى الناس يعانون الجوع والحرمان وقلة الموارد العائلية، ولا يملكون شبر أرض يخدمونه لسد جوعتهم وجوعة أبنائهم، تحمد الله على نعمه: أرض نأكل من زرعها وأشجار نأكل من ثمارها، وماذا نريد أكثر من هذا! وما علينا إلا أن نواصل العمل ليلا نهارا. بهذه الكلمات كانت الوالدة تصف لنا حالة تلك الحقبة العسيرة التي كان الناس يكابدون ويعانون فيها.
تحسنت موارد الأسرة المعيشية في مواجهة شبح الجوع بفضل حسن تدبير الوالدة وانكبابها على العمل المتواصل، يساعدها أخوها في زراعة الأرض وجمع محصولها. أما الوالد فكان يعمل بعيدا في صفوف الجيش الإسباني، يزورهم مرة أو مرتين في السنة عندما تمنح له إجازة زيارة الأسرة.