مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة العاشرة
استأذن الوالد أفراد الحظيرة العسكرية بالخروج لنلقي نظرة استطلاعية على القرية. كانت المدرسة التي سأتابع فيها دروس الصف الخامس ابتدائي، تقع على مقربة من مقر الحظيرة.
حرص الوالد على أن يعرفني أولا بطاقم التدريس، بدء بمدير المدرسة والبواب، ثم مدرس العربية والفرنسية. بدى لي منذ البداية أن المدرسة نظامها نظام صارم والمدرسين يبدو عليهما الصرامة والجدية، خاصة مدرس اللغة العربية لم أطمئن لشخصيته. رجل قصير القامة، شاحب الوجه، سمته وقسمات وجهه لا تبعث عن الإرتياح والإطمئنان.
بعد ذلك تجولنا في القرية ليعرفني الوالد على معارفه من الحرفيين وملاك الدكاكين والمقاهي. وقبل عودتنا إلى البيت أخبرني الوالد بأننا هذا المساء سنطبخ طاجن لحم دسم تكريما لقدومي إلى قرية (حد الرواضي)، فمررنا على الجزار والخضار لشراء اللحم ومستلزمات طبخ الطاجن.
أتذكر أن الوالد قام بطبخ طاجن لحم بالخضرفأحسن طبخه. أكلت منه بشهية كبيرة. شاركنا في مناسبة العشاء السيد أحمد، نائب الوالد في قيادة الحظيرة العسكرية. اغتنم الوالد هذه الفرصة ليعرفني أكثر بالسيد أحمد، ألجأ إليه عند الحاجة في غياب الوالد.
قرية (حد الرواضي) تقع في قبيلة (بقيوة) القريبة من الساحل البحر المتوسط، بنيتها الجيولوجية معقدة، تتكون من تربة كلسية تعود إلى زمن بعيد، ولكن مناظر طبيعتها من جبال ووديان وعيون تترك أنطباعا قويا في نفسية الزائر. هكذا كان احساسي وانطباعي عن طبيعة قبيلة (بقيوة) ومناظرها الجميلة، عندما قمنا برحلة عبر سهولها وجبالها برفقة أحد أصدقاء الوالد حيث انتهت بنا الرحلة عند جزيرة (باديس) الاسبانية. وبقرب الجزيرة توجد ثكنة عسكرية يتولى حراستها بعض جنود القوات المساعدة بدون أسلحة. بينما الجزيرة يحرسها جنود إسبان مدججين بالعتاد والأسلحة الحديثة، لا يحق لأحد أن يقترب منها.
لم يبق إلا بضعة أيام ليبدأ الموسم الدراسي. كان الوالد لم يدخر جهدا في سبيل توفير لي كل الإمكانيات المادية والمعنوية من أجل الحصول على شهادة الصف الخامس (شهادة التعليم الابتدائي).
إن السنوات الضائعة كانت تقلق الوالد غاية القلق، ذلك أن أمله كبير ليراني من بين خريجي المستويات العليا. أتذكر كيف كانت خيبة أمله عندما لم أوفق في إنهاء دراستي الجامعية. كشف لي عن هذا الشعور عندما كنت في زيارته في مدينة طنجة قبل المغادرة بأيام إلى بلاد هولندا، بقوله: كم يحز في نفسي أن أراك يا محمد عاطلا، لا عمل، لا دراسة ولا مستقبل. بذلت جهدي لأساعدك وأقف بجانبك لتحصل على درجة عالية في سلم الدراسة. ولكن لم يتحقق هذا، وأنا لا أملك إلا أن أقول: قدر الله وما شاء فعل…
مرت على إقامتي في قرية (حد الرواضي) أسبوعين. تعرفت فيها عن كثير من أهالي القرية ووجهائها. كنت إذا مررت أمام دكان أو مقهى يرحب بي الأهالي وينادونني بابن (البركادي). والواقع أن أغلبية هؤلاء الأهالي كانوا يكنون لي كل الاحترام والتقدير، وجعلوني أن أربط صلة الصداقة بهم، رغم فارق السن وميولي إلى التقليل من العلاقات الاجتماعية.
في مقهى من مقاهي القرية، يملكها سيد يكنى (بعمي بوعلال) توثقت صلتي بعدد من السادة يشتغلون ككتاب في إدارة جماعة القرويين. ومنذ ذلك الحين صارت مقهى (عمي بوعلال) مقر لقائي مع هؤلاء السادة يوم السبت والأحد، أستمع إلى حديثهم ونقاشهم في المواضيع المختلفة، وبعض الأحيان ينضم إلي المجلس بعض المدرسين في مدرسة القرية. الوالد من جهته لم يكن له اعتراض على هذه الجلسات في المقهى شرط أن تكون في أوقات الفراغ، أي يوم السبت والأحد وفي حدود المعقول.