مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة التاسعة
في بداية السبعينات انتقلت إلى بلدة تارجيست لمتابعة دروس الصف الخامس مرحلة ابتدائي في مدارسها. جاء هذا الانتقال عندما طلبني زوج الأخت لأقيم معه وأنوب عنه في مساعدة الأخت على نوائب الحياة، عندما يكون في سفر بعيد بحكم طبيعة عمله كسائق شاحنة.
قرية تارجيست أكبر من قرية بني حذيفة من حيث العمران والسكان، بيئتها تختلف في عدة وجوه عن بيئة بني حذيفة. لم تكن النظم التقليدية لبلدة بني حذيفة تفسح المجال كثيرا – كما هو الحال في قرية تارجيست- للمؤثرات الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن الهجرة التي عرفتها بلدة تارجيست.
فبانتقالي من بني حذيفة إلى تارجيست، وجدتني في إطار جديد أمام عناصر ومؤثرات تختلف عن سابق نشأتي.
انتظمت في متابعة الدراسة مع زملاء جدد لا أعرف أحدا منهم، عدا أخ لزوج الأخت من أبيه. لم أفلح لعقد علاقة مع التلاميذ الذين تجمعني بهم الدراسة إلا في حدود. ورغم الدفيء الذي أحطت به من طرف الأخت وزوجها إلا أن الحنين إلى مهد الطفولة بني حذيفة وتعلقي الشديد بطبيعتها ومشهد الوالدة حين المغادرة والدموع في عينيها، لم يخف.
لم أستطيع التكيف مع الواقع الجديد. علاقتي الاجتماعية كانت مقتصرة على دكان والد زوج الأخت أقضي بعض الوقت مع أخيه، أو أذهب إلى سيد فاضل (موح سلام) من عائلة زوج الأخت، يملك مخبزة. كان الرجل – وهو الآن في عداد الموتى يرحمه الله – يرحب بي ويقدم لي قطعة خبز ساخن بزيت الزيتون وكوب شاي بعشبة النعناع. والواقع أني كنت ألتهم تلك القطعة من الخبز بشهية كبيرة.
في زاوية من زوايا القرية حين كنت يوميا أمر على أطلال بنايات يعود عهدها إلى الاستعمار الاسباني وأنا في طريقي إلى المدرسة، كانت أفكار غريبة تخالجني وتتملك نفسي لم أبح بها لأحد مطلقا. الأرواح الشريرة التي حدثتني الوالدة عنها وصلتها بإعاقة قدمي تسكن في هذه البنيات، مع أنني كنت أختلف مع الوالدة وأقول لها أن سبب مشكلة قدمي ليس الجن والأرواح الشريرة وإنما هناك سبب آخر.
لم تمر السنة الدراسية بسلام بسبب الظروف التي لم أستطيع أتأقلم معها، بالإضافة إلى مشكلة سوء التفاهم مع أخت زوج الأخت. لم أتم السنة الدراسية في قرية تارجيست للأسف، فضاعت مني سنة أخرى في مساري الدراسي.
وهذا الفشل لم يستطيع الوالد تحمله، لأن حرصه على مستقبل دراستي كان كبيرا. فحمل أعباء الفشل للوالدة التي أصرت على ذهابي مع الأخت. وبعد الأخذ والرد أخذ الوالد قرارالذهاب معه إلى مقر عمله في بلدة (حد الرواضي) لمتابعة دروسي في مدارسها. تبعد قرية (الرواضي) عن بني حذيفة بمسافة ليست بقليلة.
والواقع كنت أفضل أن أستأنف مشوار دراستي في بلدتي الوديعة بني حذيفة، وبقرب والدتي المريضة. فيعز علي فراق مدرسة بني حذيفة التي تعلمت فيها رغم المعاناة، وطبيعتها الخضراء التي منحتني الصفاء الذهني والانسجام مع نفسي عندما كنت أتنزه بين أحضانها مع رفاقي، بل ويعز علي فراق والدتي المريضة. كلها مشاعر أحسست بها شديد الإحساس. ولا أدري ما سبب كل هذه المشاعر والإحساسات التي شعرت بها في الأيام الأخيرة قبل المغادرة. ربما حالة الوالدة ومرضها الذي زادت حدته وألزمها الفراش.
أتذكر أن الوالد حرص على أن نحل بقرية (حد الرواضي) بأسبوعين قبل بدء السنة الدراسية ليعرفني على المرافق الحيوية للقرية. كان في استقبالنا أعضاء الحظيرة العسكرية المتكونة من بضعة أشخاص مرتدين زيهم العسكري. وبعد أن عرفني الوالد بهم رحبوا بي وقال لي أحدهم بابتسامة ساخرة: مرحبا بك في ثكنتنا العسكرية الصغيرة، وأنت الآن واحد منا تعمل على ضبط أمن القرية. قال له الوالد: دعك من هذا يا سيد أحمد، فابني محمد جاء لمتابعة دراسته ويتخرج مهندسا كبيرا وليس ليمتهن مهنتك أنت!.. هيا ساعدني على نقل الأمتعة إلى محل الإقامة. محل السكن جزء من أبنية مقر الحظيرة العسكرية، يحتوي على غرفتين، مطبخ وحمام غير مجهز بالماء والتيار الكهربائي. كنت قد تعودت على التيار الكهربائي عندما كنت مقيما مع الأخت بقرية تارجيست، وهذا يعني أنني سأعود إلى عادتي القديمة والمتعبة: إنجاز الواجب المدرسي باستخدام قنديل الغاز.
كانت حديقة خضراء كبيرة من أجمل الحدائق تحيط بالسكن. أغلبية أشجارها تنبت ثمار الإجاص. سررت غاية السرور لهذا الاخضرار والنعمة من الخالق، وكذلك حساسيتي تجاه الطبيعة كبيرة. ولا شك أن هذا المنظر الخلاب من حولي سيمنحني قوة ويمدني بطاقة على مواجهة صعاب الدراسة.
بعد ترتيب أغراضي في الغرفة وأدواتي المدرسية على منضدة، كان الوالد قد طلبها خصيصا لإنجاز الواجب المدرسي، دعينا لجلسة شاي للتعرف أكثر على أفراد الحظيرة العسكرية التي تعمل تحت إمرة الوالد كقائدها. السيد أحمد هو من يتولى زمام الأمور في غياب القائد، أي الوالد. ولذلك حرص الوالد على أن يعرفني به أكثر بقوله: هذا السيد أحمد سيساعدك إذا احتجت شيئا في غيابي عندما أكون في زيارة عمل أو زيارة الأسرة ببني حذيفة. فلا تتردد أو تخجل في اللجوء إليه والاستعانة به عند الحاجة.