مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة الثامنة
كان من نعمة الخالق أن ولدت ونشأت في بيت متواضع محاط بأشجار التين والصبار، والحقول الخضراء، وعند أسفل رابية اتخذ أهل المدشر فيها وثنا (يسمى سيدي بوطاهر) يقدمون له قرابين، فإذا هبطنا درجات متجهين نحو الواد رأينا الماء الرقراق يرشح عبر الرخام… إن الحائط الصغير الذي يشكل سورا (لسيدي بوطاهر) والأشجار الباسقة التي تغطيه بظلالها، ونداوة المكان، كل ذلك يأسرني، وفي الوقت نفسه، يبعث في نفسي شيئا من الارتعاش.
وعند عودتي إلى البيت من فترة الاستراحة بين أحضان الطبيعة آمر على أماكن قرب البيت يبيض فيه الدجاج لآخذ البيض للوالدة الذي تجمع قبل أن ترقد عليها الدجاجة للفقس. تربية الدجاج وبيضها يعتبر مصدرا للتمويل مهما بالنسبة للوالدة، بل لكل أهالي القرية لتغطية كثير من نفقة احتياجات حياتهم اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، لحم الدجام يعوض لحم العجل والخروف الذي لا نفرح به إلا في المناسبات كعيد الفطر والأضحى وبعض الأحيان في شهر رمضان. أما ما عدا ذلك فشراءه من السوق بأثمان مرتفعة ليس من السهل علينا أداءه. وكنا عندما تحضر دجاجة أو ديك للعشاء يكون اليوم لنا بمثابة يوم إحياء مناسبة العيد. والدجاج المربى تربية بيولوجية طبيعية لحمه ومرقته لذيذة غاية اللذة، كنت آكله بشهية كبيرة ولا أشبع منه.
إجازة نهاية الأسبوع تعني بالنسبة لي الحرية والتخلص من قيود المدرسة وأوامر المدرس. وعندما أستيقظ من النوم وبعد تناول وجبة الفطور، أقوم بإنجاز بعض الواجب المدرسي يوم السبت والباقي أتمه يوم الأحد.
أيام فصل الربيع كنت أفضل إنجاز الواجب المدرسي وقت الصباح، أجلس أمام البيت على طاولة مربعة، أهداني إياها الوالد، موفيا بوعده: “ما عليك إلا أن تأمر بما تحتاجه شرط أن تجتهد وتجد في دراستك”. وعندما أكون في صراع محتدم مع حل مسألة حسابية أو محاولة قراءة وفهم نص أدبي، إذا بنظري يقع على الطبيعة بكل ما تحوي من اخضرار وجمالية، كأن ستارا قد ارتفع أمام نفسي، ليتحول المشهد أمامي نحو اللامتناهي للكون الفسيح الذي أحيا فيه.
إن كل الأشكال الفخمة للكون التي تبدو لي في البداية صغيرة ثم تتمدد وتكبر إلى اللامتناهي، كانت تحيا وتتحرك في نفسي وأنا لا أملك القدرة واداة التعبير عن هذه الحساسية للنفس تجاه الطبيعة والكون.
لمدرس اللغة العربية (السيد اليطفتي) أحفظ له حسنة من حسناته أنه كان يمنح لنا فرصة اختيار الموضوع لنكتب فيه (التعبير الحر كما كان يسميه). وكان موضوعي المفضل هو الطبيعة أو فصل الربيع. كنت أخصص وقتا لا يستهان به للكتابة فيه يوم السبت والأحد. إلا أن مهارات اللغة لا تسعفني –للأسف- لكي أعبر عن شعوري وحساسيتي نحو الطبيعة تعبيرا كافيا وافيا.
وكما سبق القول، كان البرنامج يوم السبت والأحد هو العمل على إنجاز الواجب المدرسي مباشرة بعد تناول وجبة الفطور، بعد ذلك يليه وقت اللعب والنزهة بين أحضان الطبيعة عندما يسمح الجو بذلك. وأما بقية النهار فكنت أفضل قضاءه في إحدى المقاهي للقرية، أتابع فيلما من الأفلام الذي تبثه التلفزة الاسبانية. ومن بين الأفلام المفضلة لدي، فيلم البيت الصغير بين المروج وشارلي شابلا وأفلام رعاة البقر.
وعند اقتراب موعد بدء الفيلم تكون المقهى مزدحمة، لا يسمح لك بالبقاء إن لم يكن في استطاعتك أداء ثمن المشروب. وحتى لا أحرم من متابعة الفيلم، لجأت إلى حيلة لم أبح بها إلى أي أحد لمدة طويلة. أمر خفية على المكان الذي يبيض فيه الدجاج خارج الأحواش لأخذ بيضتين ثمنا للمشروب.
مسلسل البيت الصغير بين المروج جسد لي معاناة أسرة في مواجهة صعاب الحياة التي عايشتها مع أسرتي من قريب أو بعيد، وخاصة المناظر الطبيعية للقصة كانت بالنسبة لي أخاذة وتسحرني روحيا، تشبه البيئة الطبيعية التي نشأت فيها إلى حد كبير. لم أكن أفهم كلام أبطال الفيلم الناطق باللغة الاسبانية، ومع ذلك كنت أحرص كل الحرص على ألا تفوتني حلقة من حلقات المسلسل. ومنذ ذلك الوقت (سبعينيات القرن الماضي) إلى الآن (وقت كتابة هذه المذكرات) أجزم أنني شاهدت الفيلم عشرات المرات ولا أمل من مشاهدته.
كنت مرة مع ابنتي مريم في زيارة للمكتبة لاستعارة الكتب وأفلام الأطفال، فإذا بها تناديني: أبي أنظر، القصة التي حدثتني عنها وهي تشير إلى أقراص مدمجة مكتوب عليها “البيت الصغير بين المروج” باللغة الهولندية.
ومريم كانت محقة لأنني سبق لي أن حدثتها عن المسلسل وكيف كنت أتابعه أيام طفولتي بشغف ومتعة وانسجام تارة، وتارة أخر أبكي لمواقف حزينة ومؤثرة… أنفعل وأتجاوب مع مشاهد الدراما وأنا أتابع الإبنة الوسطى (لورا) بحيويتها ومبادراتها وحبها لأهلها. شاهدت المسلسل مع مريم مرات عدة على شاشة التلفزيون الهولندي وعبر الأقراص المدمجة المستعارة من المكتبة.
1 Comment
من المثير للاهتمام ، أنت تقوم بعمل جيد