مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة السادسة

واضبت على متابعة الدراسة خمسة أيام في الأسبوع دون تسويف أو تأجيل، لأن الوالد والوالدة كانا ينتظران مني بذل الجهد للحصول على نتائج حسنة ومتفوقة. وكان الأخ جمال الدين لا زال يتابع دروس الصف الأخير من التعليم القاعدي، نذهب معا إلى المدرسة باكرا ونعود مع نهاية النهار.

مرت السنة الدراسية الثالثة (الإبتدائي الثاني) بسلام لأنتقل إلى السنة الرابعة (المتوسط الأول). كان العرض التعليمي للصف الثالث (الابتداء الثاني) يتكون من مادة اللغة العربية والحساب واللغة الفرنسية. اللغة الفرنسية بالنسبة لي هي اللغة الأجنية الثانية بعد اللغة العربية بحكم الأمازيغية كلغة الأم.

والمتأمل في مثل هذا العرض والمجموعة المستهدفة التي تتلقاه، يجد – دون شك – أنه ليس من العقل ولا المنطق أن تدرج لغة ثانية أجنبية ضمن مقرر الصف الثالث (الإبتدائي الثاني)!

وكان من الواجب على صانعي القرار في وزارة التعليم أن يكتفوا بإدراج لغة واحدة كلغة التدريس ضمن مقررات مرحلة التعليم الأساسي. والنظريات التربية تؤكد على أن التدريس بلغة الأم في مرحلة التعليم الأساسي في غاية الأهمية في اكتساب القدرات العلمية والأدبية. وأنا نفسي كانت اللغة العربية في هذه المرحلة ، تتطلب مني جهدا مضاعفا لفهم قواعد أصولها، وما بالك بلغة أجنبية ثانية!

وما يؤسف له المرء هو أن الأجيال لم تتمكن لا من اللغة العربية ولا من الفرنسية، لأن لا المنظومة التربوية ولا تكوين المدرسين كانوا في مستوى المطلوب لتحقيق الهدف المنشود.

والمغامرون، واضعي المناهج التربوية في وزارة التعليم عندما أقدموا على إدراج اللغة الفرنسية ضمن المناهج التعليمية الإبتدائية كانوا لا يهمهم المستوى التعليمي للأجيال وكسب القدرات المعرفية، بل همهم الوحيد هو تنفيذ ما خططه لهم المستعمر الفرنسي.

فرض علينا هؤلاء الفرنكوفونيين عرضا تعليميا ملفقا معقدا غريبا، لا صلة له بالعالم الذي نحيا فيه. نصوص كتب اللغة الفرنسية المقررة تتناول مواضيع جرت أحداثها في بيئة تختلف كل الاختلاف عن البيئة التي عشنا ونشأنا فيها.

النصوص التي تتناولها الكتب المقررة للصف الثالث والرابع والخامس تتحدث عن نفسية الطفل الفرنسي الذي نشأ في مجتمع مختلف عن مجتمعنا، همومه مختلفة عن همومنا. فمثل هذه المقررات لا يمكن لها أن تنمي قدرات العقلية والنفسية للناشئة، بل تخلق شكوكا وعدم الثقة بالنفس وازدواج الشخصية.

وهذه البرامج التعليمية الملفقة أنتجت جيلا تائها ضائعا، لا يعرف ذاته ولا يدرك مصيره وما يراد به. ولا زال – للأسف – صانعي برامج التعليم في الوزارات المتعاقبة في بلد المغرب المنكوب، يتمادون ويصرون على وضع البرامج التربوية الملفقة.

لم يستقر لي الحال على متابعة الدروس إلا في الصف الثالث من التعليم القاعدي، إلا أن الصعوبات التي كانت تجابهني تحد من قوى نشاطي ورغبة متابعة الدروس متابعة تفضي إلى نتائج متفوقة ترضي الوالدين.

ولهذه الصعوبات أسباب متعددة، منها :

– صعوبة استعاب العرض التعليمي الذي لم يكن مشوقا ولا جذابا.

– عقلية المدرسين، عقلية عنيفة، يلجأون إلى العنف والضرب والسلطوية. ولكأن عملية إعطاء الدرس لا تستقيم إلا بوسائل التعنيف. المدرس له الحق أن يفعل بنا ما يشاء، لا يخضع للمحاسبة والمساءلة.

هذه هي المنظومة التعليمية التي تلقينا في رحابها التعليم والمعرفة اللذين يعتبران العمود الفقري لنهضة كل مجتمع عبر التاريخ، خاصة في زمننا الذي استطاع الانسان فيه أن يخترق الأجواء العليا، يغزو القمر والكواكب البعيدة عن كوكبنا الأرضي. وهذا كله لم يتم لهذا الإنسان إلا بفضل اكتسابه شتى المعارف والعلوم. وأما إنساننا، فمصيره ممارسة العنف عليه وقهر نفسيته وقتل روح الابداع فيه. والعنف يمارس عليه بطريقة منهجية، في البيت، في الشارع، في الإدارة، في المدرسة، في السياسة، أينما حل وارتحل يقابل بالعنف والتخويف.

والمدرسون الذين يستعملون العنف هو نتاج المجتمع الذي يسبح في ثقافة العنف والعنف المضاد والتذمر النفسي، بحيث أنهم لا يرون في التلميذ سوى ذلك الشقي الذي يقلق راحتهم!

وهنا تحضرني حادثة لن أنساها ما حييت وذلك عندما طلب مني المدرس استظهار سورة من سور القرآن القصيرة، فلم أستظهرها استظهارا وافيا، غضب وشتمني ثم ضربني ضربا مبرحا حتى وقعت طريح الأرض، مغشيا علي.

طلب الوالد مقابلة هذا المدرس بحضور مدير المدرسة لتوضيح سبب استعمال العنف إلا أنه نفى أن السبب هو استظهار القرآن وإنما عدم تنفيذ ما طلبه مني.

لم يرضى الوالد من استخفاف هذا المدرس المعتوه فقرر مقاضاته، ساعده في ذلك كبير الجيش الذي كان يعمل تحت إمرته. جاء الحكم بأن يفصل عن مهنته جزاء لفعلته الخسيسة وسلوكه العنيف، إلا أن المدير تدخل يستعطف الوالد بأن يعفو عليه، بشرط أن يستمر في مهنته ضمن مجموعة المدارس التي تقع في مكان نائي، بعيدا عن القرية.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.