مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة الخامسة
دخلت المدرسة في سن السادسة من عمري. المسافة التي تربط البيت بالمدرسة تقدر بكلومترين. كنت أقطعها خمسة أيام في الأسبوع ذهابا وإيابا أعرج على قدمي اليمنى. وجدت صعوبة الإندماج في البيئة المدرسية. نجلس ساعات طوال على مقاعد خشبية غير مريحة في قاعة تضم أكثر من ثلاثين طفلا، وأمامنا مدرس يمسك بقضيب طويل يشير به إلى الحروف الهجائية المرسومة على السبورة. لم أكن أفهم ما يقوله هذا المدرس الناطق باللهجة العربية المغربية. لغة الأم هي اللهجة الأمازيغية ولم يسبق لي أن سمعت أو نطقت بالعربية. وكان يشق علي فهم ما يقوله المدرس وما يطلبه مني.
السنوات الأولى من مساري الدراسي كانت سنوات عذاب نفسي ونفور من المدرسة، إضافة إلى سخرية واستخفاف التلاميذ بي والتهكم علي بسبب إعاقتي.
هذه التجربة السيئة جعلتني أكره المدرسة وأرفض الذهاب إليها، فكلم الوالد إدارة المدرسة لإيجاد حل لمشكلتي، وتعمل على تأديب من يسبب لي المعاناة النفسية، ولكن عبثا تحاول الإدارة ، باءت كل محاولاتها بالفشل.
لم أعد أحب أن أسمع شيئا يسمى مدرسة. كنت أختلق كل الأعذار الممكنة لأعفى من الذهاب إلىها. مرت السنة الدراسية الأولى بين الحضور والغياب، والنتيجة هي الرسوب في جميع الاختبارات، فأعدت السنة الدراسية الأولى من حيث بدأت.
رأى الوالد أن سياسة الترهيب والترغيب لا تجدي معي في شيء، عندما أخبر بأن نتائج السنة الدراسة الثانية التي حصلت عليها لا تأهلني وتسمح لي بالانتقال إلى السنة التالية. لم يستطيع الوالد أن يتحمل الفشل والرسوب الذي منيت به في السنتين الأولى والثانية. لجأ إلى الصرامة ولا أعذار من اليوم! علي بالذهاب إلى المدرسة والمواظبة على متابعة الدروس وكفى! ولذلك كلف الأخت لتصحبني إلى المدرسة في الذهاب والإياب.
خضعت لنظام صارم في متابعة الدروس خمسة أيام في الأسبوع، لأن الوالد والوالدة كانا يريان أن لا حل لي إلا الاجتهاد والتفوق في دراستي بحكم إعاقة قدمي، والتي لا يمكن معها أن أمتهن المهن التي تتطلب جهدا جسديا كما حصل مع الأخت ارحيمو والأخ شعيب وجمال الدين الذين يكبرونني سنا. الأخت ارحيمو لم تنهى مرحلة التعليم القاعدي فتولت مهمة تربية المواشي ومهمات أخرى داخل وخارج البيت. الأخ شعيب لم ينهي هو أيضا مرحلة التعليم القاعدي، فامتهن مهنة فلاحة وزراعة الأرض. وأما جمال الدين فقد أنهى مرحلة التعليم القاعدي، ولكن لم يتم مساره الدراسي. اتجه إلى التجارة التي كانت تستهويه وتحفزه بحيث أدارت عليه أرباحا لا يستهان بها.
وخلافا لوضعيتي، كان الوالد يرى أن حالي لا ينصلح إلا بمتابعة دروسي متابعة جدية لا تسويف ولا تأجيل فيها، ويوصني بقوله: أريد أن أراك متفوقا في دراستك وتذهب فيها بعيدا، وبالتالي تحصل على درجة عالية لتأمن بها مستقبلك.
لم نكن نرى الوالد بيننا في البيت إلا في أوقات محدودة، عندما تمنح له إجازة زيارة العائلة، بحكم عمله في الجيش. وفي زيارته لنا كان يحرص كل الحرص على معرفة أحوال المدرسة ويحثني على الإهتمام بدروسي وأعمل جهدي من أجل الحصول على نتائج مشرفة ومتفوقة، وأن آخذ الأمر بجدية ولا أشغل بالي إلا بمستقبل دراستي. وإذا احتجت إلى نقود أو إلى ملبس أو كتب، فما علي إلا أن أطلب، فطلبي منفذ في الحال.
وهذا الجميل أقدره للوالد وأقدر كفاحه وجهاده من أجل مستقبل أبناءه. وقد عمل في صفوف الجيش الإسباني وبعد الاستقلال استمر في عمله في صفوف الجيش الملكي مدة تقارب خمسة عقود. شهد الحرب الأهلية في اسبانيا وأصيب بجروح خطيرة في ساقيه، كادت أن تودي بحياته. وعندما أتيحت لي فرصة زيارة الأهل في بلد المغرب في شهر مارس عام 2000م، بعد خمسة عشر سنة متتالية قضيتها في بلاد هولندا، وجدت رجلا آخر، نحيفا، ضعيفا، أنهكه المرض، فتساءلت: هل هذا هو الرجل الذي كنت أعرفه ببنيته الجسدية القوية، وصاحب الشكيمة والعزيمة التي لا تعرف التراجع والانكسار؟!
حقا لم أصدق عيناي!.. وحزنت لحاله إلى درجة البكاء، وهو بدوره لم يتذكر أنني ابنه!.. سأل زوجته: من هذا الرجل الذي دخل علينا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟
لم يعد يسمع ويتعرف على الناس بسهولة. أدركت حينها أن الوالد صار من الذين يردون إلى أرذل العمر- كما يخبرنا كتاب القرآن. إن هذا الموقف قد أفهمني معنى الآية ومقصدها، فالواقع هو خير من يفسر النصوص.
وفي زيارتي الثانية في فصل الصيف لعام 2000م، وجدته طريح الفراش لا يستطيع الحركة، زاد ضعف سمعه إلى درجة أنه لم يعد يسمع إلا بصعوبة كبيرة. حرصت في هذه الزيارة أن أكون بجانبه، نتحدث عن ذكريات الماضي وذكريات إقامتي في هولندا. كان يشعر بالاغتراب والوحدة، فيقول: تفرق الأبناء وشغلتهم الدنيا عني، وحتى أنت أطلت الغياب في تلك البلاد البعيدة، ولم أعد أراك وأتحدث إليك، والأمر كما ترى، وحيدا في هذه الغرفة، أقضي فيه الأيام الأخيرة من حياتي…
أدع لي بالرحمة والمغفرة ولا تنسى والدتك بالدعاء، وقد ذكرت اسمك وأثنت عليك بخير في لحظاتها الأخيرة قبل أن تسلم الروح إلى بارئها.
ما أغرب تصارف الزمن!…
إنه تكرار الموقف، نفس الكلمات ونفس العبارات، وهي مؤثرة غاية التأثير، سمعتها من الوالدة سابقا عبر الشريط السمعي الأخير الذي راسلتني به قبل قضاء نحبها.
لم يعش الوالد إلا بضعة شهور بعد زيارتي هاته في الصيف، ليصلني خبر وفاته ويسدل الستار عن مشهد حياته، وهو الآن يرقد في مقبرة المجاهدين بمدينة طنجة، تبعد ليس بقليل عن المقبرة التي ترقد فيها الوالدة. تمنيت لو أنهما دفنا في نفس المقبرة.