مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة الرابعة

ولدت في بيت متواضع، يبعد بضع كلومترات عن التجمع السكني الذي كان تقيم فيه الوالدة، بجوار عائلة الوالد. بنى الوالد هذا البيت الجديد لأسباب كثيرة، منها كبر وازدياد أبناء الأسرة، وكنت الخامس من بينهم، والسبب الآخر وهو الأهم، وضع الحد للمشاكل والنقم التي كان الأعمام يثيرونها ويحيكونها ضد الوالد وأسرته.

يحوي المنزل خمسة غرف، يوسطه فناء واسع على شكل مربع، وبالخارج رصفت ساحة واسعة للعب والجري، محاطة بأشجار التين والصبار (الهندي الشوكي). وراء البيت وعلى مسافة بضعة أمتار، خصصت مساحة أرضية كبيرة لجمع المحصول الزراعي فيها، ريثما يحين وقت تدريسه في أواسط فصل الصيف.

في هذا البيت ولدت ونشأت وهو مهد طفولتي، ولي معه ذكريات قوية جدا، لا أستطيع الفكاك منها، وكل حنيني واشتياقي لبلاد المغرب هو مختزل في هذا البيت وبلدة بني حذيفة. وفي الجزء الثاني من هذه المذكرات عبرت عن هذا الحنين والإشتياق اللذين كنت أشعر بهما تجاه البلدة والبيت الذي شهد مولدي، حينما طال بي المقام في هذه البلاد.

كانت التربية التي تلقيتها تربية تقليدية عادية مثل باقي أقران البلدة. أهالي البلدة أغلبهم أميون، لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بسبب التخلف الاجتماعي الذي تعود جذور أسبابه الرئيسية إلى المدى البعيد في التاريخ. ثم جاء الاستعمار الاسباني فكرس هذا الواقع واستغله خير استغلال لخدمة مصالحه السياسية والاقتصادية. والاستعمار الاسباني هو شر استعمار عرفته المنطقة في القرن العشرين، قضى مآربه وترك المنطقة قاحلة جرداء من حيث استصلاح الأراضي للزارعة وتشييد الطرق وبناء القناطر.. إلخ.

جيلي لم يشهد حقبة الاستعمار الاسباني، ولكن مخلفاته وآثاره كانت بادية للعيان. يتضح ذلك من خلال المؤسسات التعليمية والصحية والطرق المؤدية إلى القرية التي أنشأها هذا الاستعمار. لا يوجد في القرية المنكوبة إلا مستوصف واحد، يقدم بعض الخدمات الصحية البسيطة لا تكفي للأهالي. وأما الذين يقطنون في المناطق النائية البعيدة عن القرية وراء الجبال، فكان مصيرهم الإهمال والموت البطيء عندما يصابون بالأمراض. كنا نشاهد مريضا محمولا على ظهر دابة، لا يصل إلى القرية إلا وشدة ألم المرض قد أنهكه، بل وربما قضى أجله قبل أن يصل إلى المستشفى المركزي المتواجد بمدينة الحسيمة التي تبعد عن القرية بخمسة وأربعين كيلومتر.

كانت هذه المأساة تحدث أمام مرأى ومشهد صانعي القرار وأصحاب السلطة الذين كانوا يتبجحون بعهد الاستقلال والازدهار والرخاء، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها.

 المدرسة التعليمية التي خلفها الاستعمار في القرية، هي بناية تتكون من ثلاث حجرات أو أربع -كما أتذكر-، يجاورها مطعم، يقدم بعض الوجبات الغذائية للأطفال الذين يقطنون بعيدا عن القرية.

كان عمري ست سنوات عندما قرر الوالد تسجيل اسمي على لائحة الانتظار لهذه المدرسة. وبعد العطلة الصيفية مباشرة باشرت متابعة الدروس في الصف الأول (قسم التحضيري). العرض التعليمي يتكون من لغة عربية، حساب وقرآن.

قبل الإلتحاق  بهذا المدرسة كانت علاقاتي مع الأطفال أقراني محدودة جدا، وربما هذا يرجع إلى مقر البيت الجديد الذي يبعد عن التجمعات السكنية بمسافة غير مشجعة لتجمعني علاقة بأطفال هذه التجمعات السكنية، إضافة إلى  ذلك كنت قد أصبت بإعاقة في قدمي اليمنى عندما كان عمري يناهز ما يقارب السنة.

الأسباب الحقيقية لإعاقتي هذه لم أستطيع أن أكشفها رغم البحث والأسئلة عنها. كل التفاسير التي سمعتها لم تقنعني ولم توضح لي أسباب الحادثة. سمعت مختلف الروايات من أفراد العائلة، خاصة من الوالدة، ولكن الروايات المروية لي كانت كلها غيبية لها علاقة بالأرواح الشريرة وعالم الجن.

واحدة من هذه الروايات التي أعادتها الوالدة على مسامعي مرات عدة، لم أقتنع بها يوم ما، مضمونها هو: كنت نائما والوالدة بجانبي بين اليقظة والنوم، وفجأة تراءى لها شيء يهبط من سقف البيت على شكل شبح، ثم سرعان ما اتضح أن هذا الشبح على هيئة سيدة أنيقة، تلبس البياض الناصع. مدت هذه السيدة يدها لتمسك بقدمي اليمنى ولكن الوالدة منعتها، ثم أعادت محاولتها فتصدت لها الوالدة مرة أخرى، وعند المحاولة الثالثة انتبهت الوالدة من النوم مرعوبة ترتجف بهول ما رأت. والحدث كان يرمز إلى شجار وعراك دار بين صاحبة اللباس البياض الناصع والوالدة.

ومن عادة الأهالي في البلدة عندما تتراءى لهم منامات من هذا القبيل يسرعون إلى مفسر الأحلام. وأشهر مفسر في المنطقة كان يبعد عن محل سكنانا بمسافة تقدر بكلومترات، تكلف جهدا لا يستهان به للوصول إلى مقر زاويته.

وهذا الرجل المحترف لمهنة الشعوذة، استطاع أن يستغل جهل الناس لعقود عدة، حيث أدارت عليه هذه المهنة المال الوفير والشهرة، يقصدونه الناس من كل أطراف المنطقة يسألونه: نبأنا بتأويل الأحلام، إنا نراك من المحسنين…

عندما قصت الوالدة هذا الحلم على الوالد وأبنائها، قالوا لها: إنها مجرد أضغاث أحلام، فلا تشغل بالك بمثل هذه الأشياء. ولكنها أصرت على تفسير هذا الحلم، فذهبت إلى زاوية المفسر لتستفسره عن هذا الحلم المزعج. قصت الوالدة أحداث الحلم على مفسر الأحلام، طالبة إياه أن ينبئها بتأويله ويفك لها طلاسمه، فكان جوابه أنني سأصاب بإعاقة في بدني.

اقتنعت الوالدة بهذا التفسير بدليل أن بعد بضعة أشهر بدأت متاعب تلاحق قدمي اليمنى على شكل تورم وانتفاخ، كان يسبب لي ألما لدرجة لا أنام معه الليل. عانت الوالدة مشقة سهر الليالي بسبب الآلام الذي كنت أكابده، وأنا طفل رضيع لا حول ولا قوة لي لأكشف عن طبيعة ألمي ومعاناتي. مضت شهور وحالة قدمي تأبى أن تتحسن، بل تزيد سوءا عن سوء. حارت الوالدة ولا تدري ماذا تفعل؟ وهي تواجه الأمر بمفردها. كان من العقل والمنطق أن تعرض حالتي على طبيب اختصاصي للأطفال. وهذا ما لم يتم للأسف!!! بينما الذي أتم هو أن الوالدة كانت تأخذني إلى عرفات محترفات الشعوذة، يقرأن لي التماتيم والتعاويذ لطرد الأرواح الشريرة التي تحرمني من النوم وتحميني من العين -بزعمهن-، لأن الوالدة كانت تعتقد أن سبب المشكلة هو العين ولا شيء إلا العين الشريرة!

لم تجد مشكلتي حلا في تعاويذ العرفات، ولا في طلاسمهن المخططة على وريقات صغيرة،   كن يوصين بها الوالدة لتعلقها بعنقي على شكل حرز وحجاب. ثم جاءت فترة عرض مشكلتي على نساء يمارسن التدليك اليدوي، تستدعيهن الوالدة إلى البيت ليجرين عملية التدليك لقدمي. والعملية كانت تتم بالشكل التالي: وضع قدمي الصغير المعذب في إناء ليسكب عليه الماء الساخن لبضع دقائق، يتبعها التدليك اليدوي باستخدام الزيوت الطبيعية، كزيت الزيتون.

خضعت لهذه العملية لعشرات المرات متتالية والنتيجة كانت أن زال النفخ وبدأ انكماش يظهر على قدمي. والانكماش لم يظهر دفعة واحدة بل ظهوره كان على شكل دفعات.

استمر الانكماش يستفحل مع مرور الأيام بدء من أصابيع القدم ثم وسطه ليصير القدم منكمشا كله.

صرت ضحية الجهل والأمية والغفلة وثقافة العين والأرواح الشريرة. ماذا تنتظر من مجتمع تربى على هذا الكم من مثل هذه الثقافة؟ إذا غابت المعرفة والعلم بزغت الأصنام على أشكالها المختلفة. فالإنسان عندما يستحوذ عليه الإيمان بآلهة أو صنم أو وثن يلغي استخدام عقله في كثير من الأمور.

وعندما أتأمل في الروايات التي رويت لي في هذا الشأن وأنا أخط هذه السطور، أجد أنني كنت حقا ضحية لثقافة العين والأرواح الشريرة. أصرت الوالدة على أن السبب الوحيد لإعاقتي هو عين الناس والجن، مع أن الأمر لم يكن يصل إلى ما وصل إليه لو عرضت مشكلتي على طبيب مختص. ولكن كان قدري المحتوم أن يتولى مصيري نساء جاهلات لا يفهمن شيئا في التدليك. التدليك له قواعد تؤسس على المعرفة، يقوم به صاحب اختصاص وعلم.

وفي سن الثالثة أو الرابعة عشر –كما أتذكر- عرضت حالتي على طبيب مختص في جراحة العظام، فوجد أن عظم القدم انكمش بسبب كثرة الضغط الذي مورس عليه وهو في طور النمو. كان من الممكن جدا أن يعالج قدمي لو تولى أمري أهل اختصاص. أما في سن الثالثة عشر فمعالجته ليست أمرا هينا: إجراء عملية جراحية معقدة تشمل عظم القدم والساق، احتمال نجاحها ضعيف برأي الطبيب الذي استشاره الوالد.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *