مذكرات الأستاذ محمد أزرقان – الحلقة الأولى

مع بداية الألفية الجديدة يكون قد مر على وجودي في بلاد هولندا خمسة عشرسنة. كانت هذه الفترة من أصعب الفترات التي مررت بها في حياتي. عانيت فيها تجارب نفسية اجتماعية تستحق الوقوف عندها والحديث عنها بالتفاصيل. راودتني فكرة الكتابة وتسجيل تجارب واعترافات هذه المرحلة. ولكن الفكرة لم ترى النور إلا بعد أربعة سنوات.

وبحكم طبيعة عملي كمدرس خصصت يومي السبت والأحد والعطل المدرسية للكتابة، وأما بقية أيام الأسبوع فكان من الصعب أن أجد فيها تركيزا وصفاء للذهن. استغرقت كتابة هذا الجزء ما يقارب أربعة سنوات. حاولت أن أسجل فيه أهم الأحداث والوقائع التي خابرتها في مرحلة:1985 – 2000م. ثم بعد سنوات خلت كتبت الجزء الآخر وهو جزء مرحلة الطفولة الذي أخذ مني وقتا وجهدا لا يستهان به.

ومن المعروف أن النجاح في أي عمل من الأعمال وإنجاز المهام التي يتطلبها هذا العمل لا يمكن الوصول إليها إلا بمثابرة وقوة العزيمة، لا تعرف الكلل ولا يتسرب إليها الملل. وكذلك حالي مع كتابة هذه المذكرات.

وقبل نشرها على شكل كتاب، وافقت إدارة تحرير صحيفة (موند 24) على نشرها عبر حلقات متتابعة. وابتداء من الآن ننشر كل أسبوع حلقة.

الحلقة الأولى

كان مولدي في بلدة بني حذيفة، ولعلها سميت كذلك نسبة إلى الصحابي أبي حذيفة الذي تخبرنا كتب السيرة عن رفقته وجهاده مع الرسول الأكرم (ص). وهكذا اقترن اسم البلدة التي شهدت مولدي برجل خلد اسمه على صفحات التاريخ الإنساني. أو بالأحرى اقترن الماضي بالحاضر عن طريق التسمية.

تبعد البلدة عن مدينة الحسيمة الساحلية حوالي خمسة وأربعين كيلومتر، وهي قبيلة فاعلة ومهمة ضمن قبائل بني ورياغل، أبناءها كانوا من المشاركين النشطاء في حرب التحرير لتخليص البلاد والعباد من قبضة الاستعمار الإسباني. واستمر هؤلاء الأبطال بعد نفي زعيمهم (عبد الكريم الخطابي) في المواجهة والنضال، ولكن هذه المرة ضد ما يسمى بجيش التحرير حينما داهم منازلهم وقراهم بالدمار والقتل.

 أورثت الأجيال الكثير من قصصهم البطولية التي سطرها جهادهم ونضالهم ضد الاستعمار الإسباني. وسرد هذه الحكايات والقصص كانت تعاد رواتها في كل مناسبة وملتقى أفراد البلدة جيل عن جيل. ومنذ سني المبكر وأنا أسمعها هنا وهناك تحكى وتقص. وهي قصص واقعية وحقيقية أقرب إلى الخيال عن متطوعي حرب الريف والمراسيم التي كانت تعقد لهم عند المغادرة إلى ميدان القتال ووداعهم بالزغاريد والأناشيد التي تحثهم على الثبات والإقدام.

ذهب هذا الجيل إلى خوض غمار المعارك التي كانت تدار رحاها في بلاد المغرب ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني، وزادهم الأساسي الوحيد هو الدين، يذكي من حماستهم ويرفع من معنوياتهم الروحية للجهاد مع قلة زادهم المادي واللوجستيكي. وأغلبية هذا الجيل قضى نحبه في ميادين المعارك وقدم قربانا على مذبح وطن كان ينهار اقتصاديا وسياسيا.

ولعل بإمكاننا أن نتصور تأثير هذه القصص على المخيلة والذاكرة، حين كانت تقصها الوالدة علينا، نحن أبناءها، في ليالي فصل الشتاء الباردة.

وهنا أضيف أن الوالدة كانت بارعة في فن قص الحكايات، إذ كانت تشدنا إليها ونحن متحلقون حولها، ننصت في غاية من الهدوء والصمت. كانت هذه مدرستي الأولى، فيها تكونت مداركي. فبعد حوالي ثلاثين سنة – من هذا التاريخ حينما كنت أتابع الدراسة بمعهد تكوين المدرسين بأمستردام أجريت عملية استبطان مع زملاء المعهد. وكان على كل واحد منا أن يجيب على السؤال: ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟.. لقد أحيا حقا هذا السؤال في نفسي ذكريات جميلة مضت ولم تعد.

لم تكتفي الوالدة بقص حكايات بطولة ونضال المجاهدين بل كانت حكايتها تشمل أيضا معاناتها الشخصية. مات أبوها وأمها وهي لازالت صغيرة لا حول ولا قوة لها. عاشت يتيمة مع إخوتها الثلاثة، كانت تكبرهم سنا بحيث تحملت مسؤولية رعايتهم في بيت متواضع جدا بجانب بيت الأعمام.

عوملت الوالدة مع إخوتها معاملة قاسية لا تليق بالإنسان البالغ وما بالك بالأطفال! وكانت الإهانة ولكمات الأعمام هي اللغة السائدة معها ولا يحق لها أن تقول شيئا أو تعترض على سوء المعاملة. أما الصبية الصغار إخوتها، فكان نصيبهم الإهمال المتعمد، لا مأكل ولا مشرب ولا ملبس. كانت تحكي هذه المأساة والأسى يعصر قلبها إلى درجة البكاء، ثم تتنهد قليلا وتقول: لا أدري ما مصير هؤلاء الأعمام بسبب ما ارتكبوه في حقنا!..

وفي خضم هذه الظروف القاسية والمعاناة الإنسانية خرجت لتعمل في حقول الزراعة التي تركها لها أبوها، كي تستقل بنفسها وتكتفي ذاتيا مع إخوتها وتضع حدا للإهمال، ولكن عبثا تحاول، حرموهم حتى من إرث أبيهم.

عانت الوالدة مع إخوتها الثلاث الحرمان وسوء المعاملة والفقر المدقع وفقدان حنان ودفئ الوالدين. وهذه الظروف القاهرة اللاإنسانية شكلت للوالدة إعاقة نفسية، عانت منها طيلة حياتها. كنت ألحظ هذا من خلال قسمات وجهها والكلمات التي كانت تلفظ بها وهي طريحة الفراش بسبب المرض الذي كان ينهش وينخر جسدها النحيف ونحن لا ندري ونعرف كنه وطبيعة مرضها.

تزوجت الوالدة وهي طفلة لا تعرف معنى الزواج ومعانته، أو فلنقل، زوجت من أجل التخلص منها، لتبدأ حقبة أخرى من معاناة الحياة الزوجية، تاركة إخوتها الصغار وراءها للقدر، يواجهون مصيرهم وحدهم.

تعودت الوالدة عن تحمل المسؤوليات وقساوة الحياة منذ سنها المبكر. ذاقت مرارة اليتم ومعاناته. وكانت تبادر كثيرا بالإحسان والعطف على الفقراء وذو الحاجة كلما دعت الضرورة إلى ذلك. وكانت كلما سمعت بباب الدار سائلا ينادي: “أعطوني من مال الله” إلا وطلبت مني لأخرج إلى السائل أطلب منه الانتظار حتى تأتي بما تكرمه به. أتذكر أنني كنت أسألها: لما كل هذا الكرم لهؤلاء الدراويش – كما يسمونهم في البلدة -، فتقول: إن حياة اليتم والجوع الذي عانيته علمني أن أحسن إلى المساكين والفقراء وأعطف عليهم.

-يتبع-

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.