ليو تولستوي.. الأديب الروسي الثائر وجدانيا! – ذ. محمد أزرقان

امتاز الأدب الروسي في القرن التاسع عشر بإديولوجية فكرية خاصة، طابعها إنساني واضح. ومن يقرأ تاريخ هذا الأدب يجد أن جل أدبائه المبدعين صبوا اهتمامهم على القضايا الإجتماعية ومشاكل الفرد الروحية في تلك الحقبة من الزمن. ولعل هذا هو أهم مميزاته وخصائصه. وللأدب الروسي اتجاهات وتيارات متعددة، يمكن تصنيفها على الشكل الآتي كما أوردها د. محمد حمود في كتابه (الأدب الروسي):

  • أنصار التوجه الغربي: تأثر هذا الإتجاه بالمدرسة الرمزية التي تشكلت في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر في أوروبا. يستمد هذا الإتجاه أفكاره الأساسية من الفلسفة الكانطية التي تعتمد على فكرة العالمين: عالم الظاهر وعالم الجوهر. واستنادا لهذه الفكرة لكانط يتحدث الأدباء الروس عن عالمين: العالم الواقعي والعالم الآخر الغيبي.
  • الأدباء السلوفانيون: دعوا إلى إصلاح النفس والأخذ بكل ما هو جديد ومفيد ولكن بروح روسية صرفة وليس تقليدا للأمم الأخرى.
  • التيار الماركسي: سعى إلى الإصلاح والتغيير الثوري للمجتمع.
  • الفلاسفة الدينيون: ينظرون إلى الإنسان من حيث هو مخلوق إلهي، تتنازعه قوتان: الخير والشر، وأديبنا تولستوي ينتمي إلى هذا التيار.

كان ليو تولستوي (1828 – 1900) أريستقراطيا رفض حياة البذخ ونعمة الرفاه واختار جانب الكادحين من الشعب الروسي. ترك الثراء المادي وبحث عن الثراء الروحي الإنساني. وكان أحد الأدباء الروس الذين اتخذوا من أدبهم وأفكارهم دعوة لإصلاح المجتمع الروسي الغارق في الفساد والإستبداد، فاهتم بالفلسفة والدين والفكر كما كان له اطلاع واسع على الثقافات والفلسفات الأخرى القريبة من أفكاره وتطلعاته وطموحاته.

ناضل تولستوي من أجل حب وخيرالإنسان، الحب الواقعي المجرد وليس الحب الصوري التخيلي، وقد ضحى بكل ما يملك من أجل الأفكار التي آمن بها، وسخر كل أنتاجه الأدبي لخدمة مبدأ احترام كرامة الإنسان.

طالب الأساقفة والقيصر وجميع الطبقات الإجتماعية باتخاذ هاتين القاعدتين كشعار للإصلاح: “أحبوا بعضكم بعضا” و “لا تقاوموا الشر بالشر” ليعم الخير والأمن والإستقرار وبالتالي سيصبح الطريق ممهدا لخلق مجتمع الرشد.

بهذه الدعوة يكون تولستوي قد أرسى قواعد السلام والسلم الإجتماعي واجتناب العنف ومقابلة الشر بالشر مستمدا هذا المبدأ السلمي من تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) وحياة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام).

تأثر تولستوي بحياة الرسول (ص) فألف كتابا بعنوان: (حكم النبي محمد) تحدث فيه عن تعاليم النبي محمد (ص) وأفكاره الرائدة في إصلاح المجتمع فيقول في إحدى فقراته: “مما لاريب فيه أن النبي محمداً من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمته برمتها الى نور الحق، وجعلها تجنح نحو السكينة والسلام وتفضل عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية ، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لايقوم به إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام”.

يبدو واضحا من هذه الفقرة أن تولستوي وقف على جوهر رسالة النبي محمد (ص) في بناء شخصية الإنسان القريشي روحا وعقلا كي يضطلع بمهامه الدنوية والأخروية، أعاد له اعتباره وكرامته بعدما كان عبدا حقيرا معذبا في الأرض.

تولستوي المتعطش للإصلاح نهل من منبع حكم النبي (ص) وأفكاره الرائدة في خلق مجتمع متجانس يسود فيه التكافل والتآزر والتفاني في العمل. ولكي يفهم هذه القيم الإنسانية الخالدة بلغتها الأصلية إلتحق بجامعة قازان، قسم اللغة العربية لدراسة علومها وأدابها والفكر الإسلامي فتأثر بعلماء المسلمين وزهدهم ووعيهم وورعهم والرحمة التي تتغشى قلوبهم والتكافل الإجتماعي فيما بينهم، والإضطلاع بدورهم التاريخي في خلق نهضة سادت العالم لقرون عدة.

إن الأعمال الأدبية التي خلدها التاريخ خصوصاً الأدب الروسي هي بمثابة مرشد للمثل والقيم الإنسانية، التي من خلالها يفهم الإنسان حياته وحياة الآخرين. كما تتيح له الفرصة لإلقاء نظرة عميقة على أوجه الحياة المختلفة. وعليه فإن الأدب قادر على تغيير رؤية الإنسان للحياة، سواء من خلال ما حققه الأدباء من إنجازات قيمة ساهمت في الارتقاء بثقافة ومفاهيم المجتمع، أو عبر سيرهم الذاتية في الأدب الواقعي، والتي تلقي الضوء على تجاربهم المميزة التي تضيف إلى تجربة الإنسان وثقافته.

والأديب تولستوي هو أحد عمالقة  هذا الأدب الروسي، وأفضل الروائيين على الإطلاق، ويعتبر أفضل دعاة السلام، ومفكر أخلاقي، ومصلح اجتماعي، وفيلسوف اعتنق فكرة المقاومة السلمية النابذة للعنف.

من أشهر رواياته التي أثرت على الأدب العالمي كافة، (الحرب والسلام). تتناول هذه الرواية مراحل الحياة الاجتماعية المختلفة، وتصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا بين فترتي “1805 – 1820م”، بالإضافة لأحداث غزو نابليون لروسيا عام 1812م.

ومن أشهر مؤلفاته أيضا كتاب (آنا كارنينا)، الذي تعرض فيه لسبل علاج القضايا الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية في شخصية آنا كارنينا التي تجسدت فيها قصة مأساة غرامية.

الانسان يشعر بحريته بفضل الروح المودعة فيه. والروح اليقظة الواعية والمهذبة تجعل الانسان ينعم ببركات السلام والمحبة، وهذا السلام هو الأساس للإستقرار والأمن الإجتماعي. هذه الجوانب الأخلاقية والقيم الإنسانية السامية تطرق لها الأديب تولستوي في كتابه الآخر بعنوان: (مملكة الرب بداخلك).

يذهب كثير من المهتمين بإنتاج تولستوي الأدبي إلى أن هذا الكتاب أثر على مشاهير القرن العشرين، الذين تبنوا منهج الدعوة والمقاومة السلمية النابذة للعنف، أبرزهم (مهاتما غاندي). تقدم دعوته هاته وصفة علاجية مزدوجة: للمستكبر والمستضعف: للمستكبر أن يكف عن قتل الانسان المكرم والمعزز بآدميته من قبل خالق، وللمستضعف أن ينهض ويفيق من سباته ويعلن العصيان ويقود الجهاد المدني في وجه المستبد لينتهي من غيه وسفك دم الانسان.

وأحسب أن كتابه هذا، جاء كنتيجة تعمقه في القراءات الدينية وحكم الأنبياء والقرآن. وقد كان القرآن خير كتاب عالج مشكلة الإستكبار والإستضعاف.

ومن دون شك أن هذه القراءات جعلت منه إنسانا ينبذ العنف في شتى صوره، ويدعو إلى احترام كرامة الانسان وحرمته، لأن حرمته عند الله عظيمة وأعظم من حرمة البيت الحرام – كما جاء في الأثر-.

قاوم الكنيسة الأرثوذكسية الظالمة في بلده روسيا، ودعا للسلام وعدم الاستغلال. لم تقبل الكنيسة دعوة وآراء تولستوي التي سرعان ما تلقفها أصحاب الضمائر والأخلاق ومناصري السلام والسلم بين الشعوب. فماذا كانت النتيجة؟.. كفرته الكنيسة وأبعدته عنها، وأعلنت حرمانه من رعايتها!..

أعجب بآراءه عدد من الناس ليس بقليل، وكانوا يزرونه في محل سكناه الجديد بعد أن انضم إلى المزارعين البسطاء، يقاسمهم عذاباتهم ومعاناتهم، معتزلا وتاركا عائلته الثرية والمترفة، فعاش غربة الأهل واغتراب الأفكار، وهو الذي كان شعاره: “أيسر على المرء أن يكتب في الفلسفة مجلدات عدة، من أن يضع مبدأ واحد في حيز التطبيق”.

وأما رحيله عن هذه الدنيا فقد كان في ظروف غريبة أيضا. في قرية استابو، وفي محطة قطار، حين هرب من بيته – بعد أن سبق له أن هرب من حياة الترف – أصيب بالتهاب رئوي أثناء طريق سيره، فتوفى على إثره في 20 نوفمبر من العام 1910م، عن عمر يناهز 82 عاما.

رفض أن يدفن وفق طقوس الكنيسة الأرثذكسية بسبب أنه كان يراها غير متعاطفة مع الفقراء والضعفاء، وتقف ضدهم، لذا تم دفنه في حديقة (ياسانيا بوليانا). وسيبقى قبره شاهدا على أفكاره ومواقفه ضد الظلم واستغلال الانسان لأخيه الانسان، وسيبقى فكره الأخلاقي ودعوته إلى الجهاد السلمي تحفز الأجيال على مقارعة الظلم والاستبداد بطرق إنسانية مشروعة وليس بالقتل والقتل المضاد، كما يحدث حاليا في عالم العرب والمسلمين، هجوم وهجوم مضاد. هي حلقة شيطانية، ستغيب مجتمعات بأكملها، كما غيبت مجتمعات في الماضي بسبب العنف والعنف المضاد. وساعتها… وساعتها فقط، سينطبق على هذا الانسان حكم الملائكة: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.