قراءة في كتاب “رسالة الصحابة” من تأليف عبدالله ابن المقفع – ذ. محمد أزرقان

حين تطالع نص هذه الرسالة التي كتبها الأديب (ابن المقفع) إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي في منتصف القرن الثاني الهجري ستصيبك الدهشة لا ريب. اقترح فيها خطة إصلاحية متكاملة لمعالجة الفساد المستشري في أجهزة الدولة، وهي تدل على عبقرية مبكرة ناقش فيها أربع أخطر مسائل تهم سياسة الدولة: المؤسسة العسكرية (الجند) والنظام القضائي وبطانة الحاكم والإصلاح الزراعي (الخراج).

يرى ابن المقفع أن إصلاح الجيش يتم بالتربية ليس على الطاعة المطلقة، بل المشروطة في طاعة الله وخدمة الصالح العام. لا طاعة للحاكم في معصية الله. ولا يعقل أن يقول أحد القواد أنه لو أمرنا الخليفة أن نستدبر القبلة في الصلاة لقلنا سمعنا وأطعنا، فهنا لا تستند المؤسسة العسكرية إلى القواعد والمبادىء الإسلامية بحال. ثم طرح فكرة فصل الجند عن إدارة الشؤون المالية تجنبا لشراء الهمم، واقترح بمراعاة الكفاءة في القيادة، فتعطى على أساس القدرات والمعرفة، وليس على أساس القبلية أو الولاء. ويرى أن مؤسسة الجند يجب ألا تكون في يد الخليفة يحركها كيفما يشاء. وأوصى بدفع رواتبهم دون تأخر وتفقد أحوالهم أكثر من الطاعة وقتل الناس.

وفي فصل إصلاح المؤسسة القضائية يقترح خطة توحيد النظام القضائي في جميع الولايات التابعة للحكم العباسي تحت بنود قانونية موحدة حتى لا يصير الظلم عنوانا لقضية بولاية من الولايات وعنوانا للعدل في قضية مشابهة في ولاية أخرى. وهو يتناول بالسرد والتحليل سبب ذلك الإختلاف ومساوئه ويعرض للفائدة التي ستنجم عن توحيد القضاء.

الفكرة الثالثة يدعو فيها إلى حسن اختيار صحابة الخليفة وحاشيته – وهم المقصدون بعنوان الرسالة في الأساس – من أصحاب الكفاءة ومن أولي العزم والإجتهاد في إدارة شؤون الدولة.

وأما الإصلاح الزراعي وهي الفكرة الرابعة فيرى أن تمسح بشكل جيد مع التسجيل والتدوين الدقيق وبالتالي تحديد الضريبة المناسبة، ولكنه اعترف أنها مسألة ليست بالسهلة أمام الفساد المستفحل.

وبالرغم من صغر حجم الرسالة، إلا أن أهميتها تنبع من كونها من أوائل نصوص الفكر السياسي الإصلاحي في التاريخ الإسلامي، كتبت كإنذار للحاكم المستبد بوجود أدمغة واعية في المجتمع مقلقة للنوم العام. لم يمر زمن طويل ليغدر بابن المقفع فقتل لتبقى أفكاره المستنيرة، مسجلة على صفحة الزمن، ترشدنا وتهدينا إلى طريق السياسة الراشدة.

إن جسد المفكر عندما يغيب عن هذا العالم يخلد بيننا بروحه وإنتاجه الثقافي-الفكري. وهذا الإنتاج يبقى يستحوذ على عقول النقاد لأزمنة طويلة قادمة ويمد الأجيال بروح مقارعة الظلم والإستبداد.

والمتأمل في فكر الرجل وهو دون الأربعين يدرك عظم الفجيعة في حرمان الأمة من أدمغة ناضجة كان يمكن أن ترسم لها مصيرا مختلفا.

قراءة (رسالة الصحابة) في هذه الأيام تجعلنا ندرك أننا نعيش دورات متكررة من فصول التاريخ بشكل أو بآخر. وأننا لا نقرأ تاريخنا بشكل دقيق، وإذا قرأناه فإننا لا نستفيد منه ولا نتحرك قدماً قيد أنملة.

إن إعادة النظر في تاريخنا ضروري لاكتشاف حقيقته من جديد وإزاحة عنه تلك الهالة القدسية، واعتباره تراث بشري مختلط بمظاهر الضعف والقصور وملطخ أحيانا بالدم، وأننا ما زلنا نرضع من نفس الثقافة العباسية بفارق ألف سنة، وجراثيمها القاتلة تضرب مفاصل ثقافتنا بألم شديد.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *