قراءة في كتاب “اقرأ وربك الأكرم” للمؤلف جودت سعيد – ذ. محمد أزرقان
يبحث المؤلف في هذا الكتاب مضمون آيات :”اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. ..” [س.العلق]. وهي تتحدث عن ميزة “القراءة والكتابة” ودورها في ترقية العقل الانساني عبر مراتب الوجود الكوني.
ولفهم هذه الميزة التي خص الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات، يستعرض المؤلف صورة تاريخية للعلم وتطويره عبر مراحل: بدءا بالإنتباه للظواهر الخارجية فتشكيل صورة ذهنية، ثم وضع الأسماء فاللغة التي انتهت وتجسدت في القراءة والكتابة في صورتها الراهنة (مراتب الوجود بتعبير المؤلف).
وإذا كان الله قد خلق الإنسان وأعطاه أدواتا ليستعين بها على تعمير الأرض، فإن “القراءة والكتابة” إحدى هذه الأدوات. بواسطة القراءة والكتابة يكشف أسرار السنن في الآفاق والأنفس، وبالقراءة والكتابة وبالتالي المعرفة يرقى وينهض من تخلفه ولافعاليته من حيث هو كائن اجتماعي.
والله استخلف الانسان في هذه الأرض على أساس معادلتين: معادلة كإنسان، أي معادلة ككائن طبيعي خلقه الله ووضع فيه تشريفه وتكريمه:”وكرمنا بني آدم”، وهي معادلة ثابتة لا تمسها يد التاريخ بالتغيير والتبديل. ومعادلة ككائن اجتماعي، وهي التي تكون ميزة الفعالية فيه، كاستعمال أداة القراءة والكتابة لتقدمه ورقيه في ظروف معينة. وهذه المعادلة الأخيرة تعترضها طوارئ التاريخ ونوائب الزمن، بحيث تتغير مكانته الاجتماعية تبعا لأطوار دورة ظاهرة الحضارة في غضون العوامل النفسية-الزمنية أو الروحية-المادية.
إن أعظم شيء كشفه الإنسان في هذا الكون هو القراءة والكتابة، فبواسطتهما يختزل الإنسان التاريخ والمعارف والتجارب البشرية، ليتعظ ويتفادى الأخطاء وألا يلدغ من جحر مرتين. بالقراءة والكتابة يحصل للإنسان الإطلاع الواسع على ما أنتجته قريحة العقل البشري من علوم ومعارف وفنون… بالقراءة والكتابة يكسب الإنسان القدرة المنهجية لتحليل الأحداث التي تحيط به وإيجاد الحلول للمعضلات الاجتماعية والسياسية. بالقراءة والكتابة يمتلك الإنسان فضيلة التسامح، ويحسن التصرف مع أخيه الانسان، ويلجأ إلى آلية الحوار عند النزاع والخصام، ليرسي بالتالي قواعد التعايش السلمي. وكل هذه الصفات والقيم الانسانية، هي إحدى نعم الله الكبرى التي ارتبطت بالقلم والعلم والمعرفة:”ن. والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون..” [س.القلم]. فالذين يتعاملون مع آيات الآفاق والأنفس من قراءة وكتابة ورموز، والعمل على تحويلها إلى حقائق هم الذين تسخر لهم ما في السموات والأرض.
إن مشكلة الأمية، وما يخسره الإنسان بفقدانه للقراءة والكتابة، شيء لا يعوض، وإن البلدان التي تعاني من الأمية، تعاني نقصا ضارا في فعالية إنسانها. فالإنسان الأمي منزوع منه الشريان الذي يمده بالسلطان، لأنه مفصول عن تجارب البشر، بل يمكن القول: إنه غير قابل أن يبلغ الرشد -على حد تعبير المؤلف-. وهذه الدول سميت بدول العالم الثالث أو النامية نظرا لعجزها عن الالتحاق بالركب الحضاري.
إن الصلة بالكتابة والقراءة ببعدها الثقافي-الحضاري، أي، حين تشمل كل شرائح الأمة، لتغير من فكر الانسان وسلوكياته وسحنته، ومن سمات وجهه وهندامه ولباسه وتحركاته وسكناته. فالفعالية أو الثقافة (الفعالية والثقافة لفظتان مترادفتان من وجهة نظر دراسات الاجتماع)، حينما تعمل عملها وتتغلغل في نفسية الإنسان، تصنع منه إنسانا متكاملا متحضرا فعالا، إنسان الأناقة -على حد تعبير المؤرخ الانجليزي توينبي-. والقراءة والكتابة هي الخطوة الأولى في خلق هذا الانسان السوي، الأنيق، المتحضر، يحسن قراءة آيات الآفاق والأنفس. والمجتمع الذي يفقد الصلة بالكتابة والقراءة، يفقد سلطانه ومكانه في عالم الكبار، ويحق فيه كلام الله:”كأنهم خشب مسندة” [س.المنافقون]، وبتعبير علم الاجتماع: مجتمع ساكن، لا يستطيع أن يغير من معالمه الشخصية ليلج باب التاريخ، أوجدته الطبيعة، وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء.
كيف تصير نعمة القراءة والكتابة نقمة؟
القراءة نعمة يحولها الإنسان إلى نقمة، يستخدمها استخداما سيئا يؤدي للعطالة وخمود الحياة، مثل استخدام المسلمين سر آيات تغيير ما بالأنفس والمجتمع. فبدل أن تستخدم آيات الكتاب لمعرفة التجارب وتاريخ البشرية، وكيف بدأ الله الخلق، صار سر آيات الكتاب للتبرك والترحم على الأموات فقط، وجعل المسلم معاني آيات الكتاب محصور في إعلان الحرب على الكفار وجهاد المرتدين والخارجين عن الدين، مع أن آيات الكتاب بعدها ومعناها اجتماعي-تاريخي-تغييري أكثر مما يكون معناها الجهاد فقط.
وكل هذا الفهم المعوج لآيات الله، نجد له تفسيرا تاريخيا منذ زمن بعيد خاصة بعد زمن دولة الموحدين في بلاد المغرب -على حد تعبير مالك بن نبي-.
لقد ساهم تقديس المسلمين للأشخاص وآرائهم المكتوبة مساهمة كبيرة في لافعاليتهم وتخلفهم عن الركب النهضوي-الحضاري. فالمسلمون قد عجزوا عن إصلاح الدين وتجديده لمسيارة العصر، وهذا كله حصل بفعل بكاءهم ونواحهم على أطلال إنتاجات سابقة وتقديسهم للأشخاص وأفكاركم.
يرد (برتراند راسل) في كتابه: النظرة العلمية أن الذين كانوا يقدسون (أرسطو) تجمدوا على رأيه في سقوط الأجسام، ولم يخطر ببالهم أن يتثبتوا من صحة أقواله، بينما كان (غاليلو) يقف موقف نقد من هذه النظرية حتى أن زملائه كانوا يتهمونه بالأحمق، إذ كان الأساتذة يقررون أن الذي وزنه عشر أرطال، أسرع في السقوط من الذي وزنه رطل واحد بعشر مرات، فأخذ غاليلو جرمين مختلفي الوزن وقعد على برج (بزا) على طريق الأساتذة وعند مرورهم أسقطهما فوصلا معا تقريبا. وحينما تأكد غاليلو من التجربة وأظهر بطلان نظرية أرسطو سخر منه أساتذته وأنكروا عليه فقالوا: كيف تجرأ وتطاول هذا على نظرية بقيت تتداول لمدة ألفي عام.
إن عدم فهم الصلة بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص، يولد الجمود وتتوقف حركة المسار والتدافع الاجتماعي، وبالتالي الخوف من الجديد والإبداع والاجتهاد. وقد عبر مالك بن نبي عن هذه الوضعية المأساوية بوضعية الأفكار الميتة التي تولد نفسية “القابلية للاستعمار”.
والقرآن كله أقام خطابه على أساس النظر والتفكر في مخلوقات الله والتعامل معها (حقائق خارجية بتعريف المؤلف)، وبذلك يتقوى عود الإيمان في نفس الانسان. والإيمان ليس مجرد إيمان وإنما هو توحيد، أي، جعل الإنسان مرتبطا بالحقائق الخارجية وتحريره من عالم الأشخاص. ولذلك نجد أن القرآن أنكر على مشركي قريش تقديس الآباء والأصنام.
إن الشخص الذي لم يتعلم التعامل مع الحقائق الخارجية والوصول إليها بواسطة التفكر والنظر، مستعملا ومستعينا بأداة القراءة والكتابة والعلم ، يتحول بسهولة إلى جعل الأشخاص مكان البحث والعلم، والكتب مكان السنن، فيضع المحراث أمام الثور –كما في المثل الفرنسي-. وهذا ما تقع فيه الشعوب المتخلفة: تقديس الأشخاص في مظاهرها السياسية والدينية (الآبائية)، والآبائية مذمومة دينيا وتاريخيا ومعيقة لنشاط النهضة والفعالية للمجتمع.
ذ. محمد أزرقان – هولندا