قراءة في فكر جودت سعيد – ذ. محمد أزرقان

انتقل إلى جوار ربه المفكر السوري جودت سعيد يوم 30 يناير 2022 عن عمر يناهز 91 عاما بعد أكثر من ستة عقود من العمل الفكري والجهاد المتواصل من أجل تنوير وترشيد العمل الإسلامي. يعتبر فكره بمثابة قبس من نور في بحر من الظلمات التي تخيم على الوطن العربي والإسلامي. آمن الرجل بأفكار ليس من السهل تقبلها لأنها توجه سهامها نحو نفس الإنسان، تدعوه إلى تغيير ما بنفسه وما بالمجتمع بناء على القانون الإجتماعي الأزلي: غير نفسك تغير التاريخ.

تعرفت على فكر الرجل أواخر الثمانينات القرن الماضي عندما أهداني أحد الأصدقاء مجموعة كتبه ضمن سلسلة: سنن تغيير النفس والمجتمع. في البداية وجدت صعوبة في قراءتها ولكن عمق التحليل وكشف أمراض العالم الإسلامي واتباع طريقة جديدة في التشخيص والمعالجة حملتني على إعادة قراءة الكتب قراءة متأنية فحصلت الفائدة وكانت أفكارها بمثابة انقلاب في التصور والفكر.

كتاب حتى يغيروا ما بأنفسهم يشرح فيه مفهوم التغيير الإجتماعي انطلاقا من الآية في سورة الرعد”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. لفظة التغيير عريقة في قرآنيتها تعني إزالة ووضع، ويرى الأستاذ جودت سعيد أن هذا المعنى يشير إلى أن ما فسد يمكن إصلاحه. تغيير ما بالنفس هو وظيفة الإنسان بينما تغيير ما بالأقوام الذي يمثل نتائج تغيير ما بالنفس هو من الله. لن يتحقق تغيير المجتمع إلا بتغيير ما بالنفس وهو قانون اجتماعي ثابت “فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا”.

يجهل المسلمون أن مشكلتهم تخضع لقوانين يمكن اكتشافها وتسخيرها لخدمة توجهاتهم ونهضتهم. وكل الدعوات التي تركت أثرها في سجل التاريخ، إنما بدأت تأثيرها على نفس وفكرالإنسان فغيرتهما، وأن هذا التغيير يخضع لقوانين هي سنن الله في الأنفس والمجتمع بحسبها يرتقي المجتمع أو يتخلف.

وأما كتاب مذهب ابن آدم الأول فيعالج فيه مشكلة العنف في العمل الإسلامي من خلال تصحيح مفاهيم خاطئة تتعلق بالجهاد والخروج عن الحاكم والتي تكون نتيجتها الإقتتال وإزهاق ارواح الأبرياء والفساد في الأرض عند اعتمادها عن تفكير مغلوط وإغفال قوانين التغيير.

لقد قدم الرجل رؤيته وهي جد متقدمة وبكل شجاعة قبل ستة عقود عندما كانت الساحة تموج بتيارات وإديولوجيات مختلفة من بينها التيارات الإسلامية التي عانت صنوف التعذيب من قبل الأنظمة الحاكمة مما حدا ببعض هذه التنظيمات اللجوء إلى العنف والإغتيال من أجل الثأر والتغيير.

يقول في مقدمة الكتاب، الطبعة الخامسة:”

“أظن أن التاريخ الذي عشته، حياة وقراءة ومعاناة، أشعرتني بضرورة أن أخرج من الرحم. وما هذا الرحم؟
إنه هو:

رحم ما وجدنا عليه آباءنا
رحم معرفة الحق بالرجال
رحم عالم الأشخاص”

ويقول أيضا في نفس المقدمة:” فالذي يعيش عالة على فكر الآباء، هو مثل الجنين الذي يعيش في الرحم عالة على أمه”.

لذا كان الأستاذ جودة سعيد يدعو عبر كتاباته وخطاباته إلى إعادة النظر في التراث والثقافة الإسلامية بالدارسة والنقد حتى نسطيع الخروج من رحم الآباء وتحقيق الإستقلال الفكري يناسب زماننا الذي نعيش فيه أو كما يعبر عليه بالولادة الفكرية.

وفي مقدمة طبعة أخرى (نفس الكتاب) اورد قول إبراهيم عليه السلام في مواجهة الأبائية: ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ هل ينفعونكم أو يضرون؟ لم نتساءل هذا التساؤل الإبراهيمي يتساءل جودت سعيد؟ وإذا تساءلنا لا نجد جوابا إلا جواب قوم إبراهيم: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون.

نحن نعيد ما قاله السلف الصالح كالببغاوات ومن يجرأ بالنظر نظرة نقدية فيما قاله السلف الصالح يرمى بالزندقة والكفر وكأنه وحي أنزل من السماء. إن كل أمة تقدس ما قاله الأجداد والآباء أمة ميتة عقلا وروحا، لا تقوى على مواجهة تحديات صنع غد أفضل وينطبق عليه ما قاله إبراهيم الخليل لقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون! ومثل هذه الأمة تكون معرضة لشتى الأمراض النفسية والإجتماعية من لجوء إلى العنف في حل المشاكل والسلطوية واستبداد الآراء وامتلاك الحقيقة..

كتابه الآخر إقرأ وربك الأكرم يتحدث فيه عن كرم القراءة في إحداث التغيير في المجتمع وأن القراءة الجادة ترفع من قدر الإنسان وتكسبه الموقف التاريخي السنني، وهذا الموقف يمنحه الثقة والتبصر والكرامة، ويبعده عن سلوك الإنتقام والحقد والتقليد.

فالذين ينالون كرم الله وكرامته هم أكثر الناس قراءة وأشدهم اتصالا بمصادر المعرفة. ويحث جودت سعيد المسلمين بالإهتمام بالمؤسسات المنتجة للمعرفة التي تفضي إلى تغيير الإنسان وتحسين صلته بأخيه الإنسان في ظل علاقته الروحية بالخالق، وما التوحيد إلا دعوة لتحرير الإنسان من كل الأغلال التي تعيقه وتصده عن إعمار الأرض إعمارا سويا.

العمل قدرة وإرادة كتابه الرابع ضمن سلسلة سنن تغيير النفس والمجتمع يناقش فيه العلاقة الجدلية بين مفهوم القدرة والإرادة، أي أن لدى  المسلمين من الإرادة والقدرة المادية ما يمكنهم الإنطلاق نحو حل مشكلاتهم والمشاركة في التأثير في سير أحداث العالم ومواجهة الغزو الفكري والقابلية للإستعمار – على حد تعبير مالك بن نبي -، ولكن مشكلتهم الحقيقية تكمن في قدراتهم الفهمية لسنن تغيير النفس والمجتمعات، إذ إنهم يخطأون الطريق عندما يطالبون بالحقوق ويغفلون سبيل أداء الوجبات، يسعون لإنشاء الدولة وينسون بناء الإنسان، يعتمدون أسلوب العنف والإكراه  في الدعوة، لا أسلوب الإقناع والجدال بالتي هي أحسن.

إن ما ينقص العالم الإسلامي اليوم، حسب الكاتب، هو القدرات الفهمية لا القدرات المادية، أي قدرة معرفة قوانين تسخير إمكانيات العالم الإسلامي في خدمة الإنسان وتطويره. والقدرات العقلية يتم تحصيلها بتفاعل العقل وسنن الكون.

إنها أفكار رائدة تؤسس لبناء الإنسان بناء فكريا روحيا ترتكز في أساسها على ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية في عهد النبوة. لذا نجد الرجل يربط بين معطيات القوانين الإلهية في تطوير المجتمعات ونهضتها، وبين نجاحها العملي في كل مجتمع نهج سبيل هذه القوانين والسنن في مواجهة مصيره ومستقبله، مهما كان اتجاهه الإديولوجي والمذهبي.

هذا الرابط، إنما هو تأكيد للقانون القرأني الذي لا تبديل ولا تغيير له في سورة الأنفال” ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”

تعرض جودة سعيد لكثير من النقد إلى درجة أن بعضهم اتهموه بالزندقة والكفر وأنه مادي.. ولكن نرى أن هؤلاء المنتقدين تختلظ عندهم أفكاره المودعة في كتبه، فيغيب عنهم تلمس نسق أفكاره والجوانب الأساسية التي يقوم عليها مشروعه الفكري.

يعتقد كثير من المسلمين أن سبب مشكلة تخلفهم هو الإستعمار والقوى الأجنيبة والأنظمة المستبدة.. ولكن جودت سعيد تفطن إلى هذه الأفكار الضارة فانتقدها. يرى أن رواج مثل هذه الأفكار هي المشكلة الحقيقة لتخلف المسلمين وتقف عثرة في طريق التغيير الإجتماعي لأن مسؤولية الإنسان تلغى في خضم هذه الأفكار السائدة.

يعتبر جودت سعيد أن مشكلة التخلف هي مشكلة الإنسان نفسه وليس العامل الخارجي، وأن النهضة تتمثل في الفعل الإنساني، وأن نقطة الإنطلاق في التغيير تبدأ بتغيير الأنفس.

في مؤلفاته تتكرر لفظة السنة بشكل ملفت للغاية فيرى أن هذا الكون تحكمه سنن وقوانين، وأن عمارته تتطلب فهم هذه السنن وحسن توظيفها، فكذلك التغيير يخضع أيضا لسنن يجب وعيها وفهمها، لأن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره. وبجانب لفظة السنة يتحدث عن الإنسان كعنصر مهم في عملية التغيير، وأن ليس هناك عوامل حتمية متحكمة في التغيير تلغي جهد الإنسان، بل إن جوهر النهضة يتلخص في هذا الجهد الإنساني ومدى قدرته على مواجهة التحديات وتطويع العوامل التي قد ينظر إليها على أنها حتميات قاهرة، بيد أن الإيمان بجهد الإنسان في التغيير لا يكفي في حل المشكلة، لا بد من تحويل هذا الإيمان إلى توجيه للإنسان ولفعاليته كي يحسن استخدام سنن التغيير وتوظيفها، وبالتالي يتحقق التغيير المنشود.

رحل جودت سعيد عن هذه الدنيا وبقيت أفكاره تحثنا وتلح علينا بالتوجه إلى بحث مشكلاتنا النفسية والإجتماعية في ضوء سنن التغيير. وتغيير ما بالنفوس له علاقة جد وطيدة بالموروثات الثقافية والأفكار التي نزرعها، ومفاتيح تغيير واقعنا هي ملك يميننا، وأي شئ يحدث لنا هو من أنفسنا قبل أن يكون من مصدر خارجي وهي فلسفة القرآن:”وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير” (س. الشورى).

رحم الله جودة سعيد وأسكنه فسيح جناته.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *