فضيلة التسامح الديني – ذ. محمد أزرقان
بلغ التعصب الديني ذروته في أوربا في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين، اختفت فيه روح التسامح الديني بكافة أشكاله، وسادت نزعات اللاتسامح، وتفشت موجة الأحقاد والضغائن والفهم الخاطىء للدين، مما نتج عن هذا كله انقسامات واتهامات بالكفر والزندقة وأحكاما بالقتل والتعذيب والحرمان.
وفي هذه الأجواء من الاكراه واللاتسامح الديني ظهر الفيلسوف الانجليزي (جون لوك) يندد بالظلم الذي يوقعه الانسان على أخيه الانسان باسم الدين والعرق والقومية. فر (جون لوك) من الجو العفن للتعصب الديني واستبداد الدولة ليستقر به المقام في هولندا. ويتحدث عنه المؤرخ الأمريكي (ديورانت) فيقول: عندما عاد إلى بلده الأصلي انجلترا كان عمره يناهز الستين. وفي سنة واحد ألف ثلاثة كتب، خلدت اسمه في سجل التاريخ: الأول بعنوان (الحكومة المدنية) عارض فيه الحق الإلهي للملوك وقال بنظرية فصل السلطات وأسس لأولى قواعد الديمقراطية السياسية. والآخران بعنوان (الطبيعة البشرية والسلوك الانساني) و (رسالة عن التسامح الديني). تعرض (لوك) في هذين المؤلفين الأخيرين لتحليل النفس الانسانية والعمل السياسي. ويقول عن التسامح الديني: إنه يجب أن ينتقل من التسامح من بين أبناء الدين الواحد إلى التسامح بين أبناء الديانات الأخرى. ويجب أن نخلق المجتمع الذي يجد فيه الانسان أمنه وسلامه مهما كان عرقه أو دينه أو قوميته. وعلى إثر هذه الأفكار لجون لوك بدأ جنين عصر الأنوار يتكون في رحم أمة أوروبا. تأثر لاحقا بهذه الأفكار التنويرية الفيلسوف الفرنسي (فولتير) عندما استنشق نسيمها الآتية من انكلترا، فوضع هو أيضا رسالته في التسامح الديني عندما كانت الكنيسة الكاثولكية في فرنسا تقود حربا لا رحمة ولا هوادة فيها ضد الهرطقيين من الطائفة البروتستانتية (الهجنتيون).
يحدثنا (فولتير) في رسالته في التسامح عن قصة رهيبة حدثت لعائلة هجنوتية بسبب عدم التسامح السائد أنذاك في المجتمع الفرنسي: كان في مدينة (تولوز) رجل يدعى (جان كالاس) بروتستانتي المذهب وله بنت اعتنقت الكثلكة. وفي يوم من الأيام شنق ابنه نفسه بسبب الإحباط في سوق العمل. وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة ولا يسمح لأي بروتستانتي في تولوز أن يكون محاميا أو طبيبا صيدليا أو بقالا أو بائع كتب أو وراقا. ومنع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي.
ولكي يتجنب المدعو (جان كالاس) هذه الفضيحة، فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول أن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقول أن الولد لم يشنقق نفسه بل إن (كالاس) قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل وعذبوه حتى الموت. وهربت عائلته إلى مدينة (فرني)، منفى (فولتير) لتقص عليه الفاجعة. فأطلق الرجل صيحته المعروفة في التاريخ:”اسحقوا العار”.
إن أفكار (لوك) و(فولتير) لم تذهب سدى وتنتهي بموتهما، بل مكثت في الأرض تنفع الناس وتكون شفاء للنفس الأوربية من داء التعصب واللاتسامح الديني. “..فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..” (سورة الرعد). وكما يضمحل هذا الزبد فيصير جفاء لا ينتفع به ولا تُرجى بركته، فكذلك يضمحل الباطل ويتبدَّد. وكذلك عمل المتعصبين واللامتسامحين والذين يقتلون الناس بسبب معتقداتهم ورأيهم، يذهب جفاء ويتبدد ولا يبقى منه شيئا. وكذلك فكر(جون لوك) و (فولتير) ومن صار على دربهما مكن لأمة أوروبا لتخلق نهضة علمية فكرية، والمنضوية الآن تحت مظلة الاتحاد الأروبي القوي اقتصاديا وسياسيا، يحسب له كل حساب في العالم.
التشدد يعمل ضد قوانين الكون التي تقوم على التوازن، واختلال التوازن يؤدي حتما إلى اختلال الكون. والتدين لا يشذ عن هذا القوانين للكون. والفكر المتشدد يلحق بالقواعد والنظم الاجتماعية ضررا كبيرا، وهو يدمر حقيقة الدين الذي جاء لخير الإنسان وسعادته.
والعالم العربي والاسلامي مبتلى اليوم بمرض الطائفية، طائفة الشيعة تكفر طائفة السنة، والسنة ترى الشيعة ضالة وخارجة عن الطريق السوي، وهم يستعملون النصوص الدينية في التكفير والهرطقة. ولم يقتصر هذا التكفير وتبادل الاتهمات عبر الفضائيات والتواصل الاجتماعي، بل امتد وتحول إلى القتل والدمار، كما هو الحال اليوم في العراق وسوريا واليمن. وعلم النفس السلوكي يشرح هذه الظاهرة فيرى أن الحرب تبدأ أولا كفكرة في الرأس ثم تنتقل إلى الفعل، كما يقول (سكينر) قطب من أقطاب هذا الاتجاء لعلم النفس:”ولكي يتحقق السلام، لا بد من معالجة حب السيطرة وجنون العظمة لدى الزعماء والقادة، ويجب ألا ننسى أن الحروب إنما تبدأ في رؤوس الناس، وأن هناك نزعة انتحارية في الإنسان، تؤدي إلى الحروب”. نفهم من هذا الكلام أن عمل إلغاء الحرب هو عمل تغيير الأفكار التي يحملها الناس في نفوسهم بالتربية وإشاعة ثقافة السلم والأمن.
تقدم اليوم في العراق وسوريا الآلاف، بل الملايين من القرابين البشرية في سبيل أصنام الشيعة والسنة. يقتل الأطفال والشيوخ والنساء لا لشيء، إلا أنهم ينتمون إلى مذهب أو طائفة أخرى. ما ذنب الأطفال الأبرياء.. وما ذنب النساء.. وما ذنب الشيوخ.. بأي ذنب يقتلون.. وبأي ذنب يذبحون كالنعاج..
إن مشكلة الطائفية لا تعالج ولن تعالج باللجوء إلى تلك الترسانة من النصوص الفقهية. يجب على نخب عالم العرب والاسلام – إذا كانت هناك نخب – أن يستفيدوا من تاريخ عصر الأنوار في أوروبا لتتصدى لداء الطائفية بإشاعة روح النقاش والصبر عليها حتى يينع ويثمر، فتثبت الأفكار أو تنفى طبقا لقانون الزبد الذي تؤسس له هذه الآية في سورة الرعد :”..فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..”.
الآراء العقائدية يصعب البرهنة فيها، ويجب أن تعالج بطريقة مختلفة، تقوم على فضيلة التسامح. القرآن يعلمنا طريقة مثلى سلامية في إدارة النقاش العقائدي:”.. لكم دينكم ولي دين..” أو “..أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..” وآيات أخرى كثيرة التي تعتبر بحق ميثاق اجتماعي أوعقد اجتماعي – بتعبير روسو- لمواجهة المعضلات الدينية والفقهية مواجهة سلمية ومتسامحة، تفضي بالتالي إلى خلق مجتمع جديد مفتوح، لا يقوم على الاكراه والخوف، يحمل قيم انسانية وقيم حرية التفكير والانتاج والعطاء.
إن الجنايات التي ارتكبت في التاريخ باسم الدين ليندى لها الجبين. والانسان الذي يقرأ التاريخ قراءة متأنية لتصيبه الدهشة حقا ويتسائل: هل الدين الذي جاء لسعادة الانسان وخدمة توجهاته العقلية والروحية ترتكب كل هذه الجرائم باسمه؟ كيف يعقل هذا!؟
العنفيون لا يلتفتون إلى سننية التاريخ، فتستعصي عليهم فهم المشكلات الجديدة، لأنهم يرونها بمنظار قديم، أو بعقلية قديمة، عبرعليها المؤرخ الانجليزي، جون أرنولد توينبي في كتابه الموسوم (دراسة التاريخ) بخمرة جديد في أزقة جديدة، أي، أن مستجدات الأحداث تتطلب أفكارا ومعالجة جديدة.
وهذه هي الخلفية الفكرية لزعماء وشيوخ جماعة السنة والشيعة. لم يتعضوا من دروس التاريخ! بل لم يتعضوا من قانون هذه الآية:”..سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كانت عاقبة المكذبين..”. كثير من المسلمين يظنون أن قانون هذه الآية لا يشملهم، وهي تتحدث عن الأمم قبل بعثة الرسول (ص) بزعمهم. وهذا خطأ ووهم. القانون هو القانون يسري على الجميع دون استثناء، لا مساومة فيه ولا تبديل له بنص الآية الأخرى في سورة الأحزاب:”سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا”
يجب ألا ننتظر معالجة معضلة الصراع الديني في العالم العربي الاسلامي على يد هؤلاء الشيوخ والزعماء الدينيين أو وعاظ السلاطين –بتعبير علي الوردي- ولا حتى على يد الذين يحسبون على العلمانية. فكلهم يشربون من معين واحد، معين الثقافة العنفية الاقصائية التي أردت المجتمعات العربية-الاسلامية أسفل السافلين.
معالجة المعضلة تحتاج إلى نخبة تتوفر فيها شرط الاستقلالية في الفكر، لا تنتمي لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، تسعى إلى التزود من معين الفكر البشري وتتعظ من سنن التاريخ، وتتحلى بالصبر والنفس الطويل، وتدعو إلى أفكارها بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة من غير أن تفرضها على أحد، لأن الحقيقة لا يملكها أحد، هي نسبية.
اعتبر (ليسنغ) من فلاسفة التنوير أن الحقيقة لا يملكها إلا الله بقوله:”لو كان بيد الرب اليمنى الحقيقة كلها، الحقيقة الكاملة الناجزة، وبيسراه البحث الدؤوب عنها المترافق مع السعي الدائم والخطأ، ثم قال لي: اختر، لجثوت على ركبتي عند يسراه وقلت له إلهي أعطني ما في اليسرى، أما الحقيقة كلها، فهي تليق بجلالك .. الحقيقة لك “
وفولتر حينما نادى بحرية التفكير والاعتقاد بدون حدود، إنما يقصد بخلق مناخ للحوار الذي ينمي ويرشد المجتمع إلى الأصلح والخير والسلم:”انني اختلف معك في كل كلمة تقولها، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد”. فهذه القولة أطلقها فولتير في أوروبا، وكانت لها أثر هائل في نشوء حق التعبير والاجتماع عليه.
وقبله جاهد عمر بن الخطاب من أجل خلق مجتمع حرية التعبير والاعتقاد، وذلك عندما كان يتحدث في إحدى المجالس، فقال له رجل:”اتقِ الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ فقال عمر: دعه فليقلها لي! نعم ما قال، لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم”.