عرض كتاب شروط النهضة للمفكر الاجتماعي (مالك بن نبي) – ذ. محمد أزرقان
يشكل مفهوم النهضة في مسار حركة التاريخ أهمية معتبرة لترقية الشعوب وتطورها. وهذه النهضة لا تتم إلا بتغيير ما بنفس الانسان والمجتمع، باعتبارهما المادة الأولية في تركيب المعادلة الحضارية. وذلك بواسطة الفكرة الدينية التي تعمل عملها المباشر في صياغة النفوس.
في هذا السياق، سياق بحث النهضة وشروطها، يأتي كتاب شروط النهضة للمفكر الجزائري (مالك بن نبي) ليضع الانسان المسلم على طريق التأمل والتفكير من أجل إعادة خلق نهضته بناء على القاعدة النفسية الاجتماعية:”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (س. الرعد).
قام بنقل هذا الكتاب من الفرنسية إلى العربية كل من عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، الصادر عن دار الفكر بدمشق في 175 صفحة من الحجم الكبير، محتويا على وصية مالك بن نبي ومقدمتين (طبعة فرنسية وعربية) وفصول متعددة.
حركة الاصلاح ووظيفتها التاريخية
يصدر مالك بن نبي كتابه في فصوله الأولى باستهلال يشكل تأسيسات لتجربته مع حركة الاصلاح الجزائرية (فترة ما بين 1922 – 1936م). فيذكر أن هذه الجمعية قامت قومة نهضوية إصلاحية، متخذة الشرعة السماوية “غير نفسك تغير التاريخ” كمنهاج لعملها. هذه الجمعية التي نشأت بجهد العلماء (أمثال ابن بادس). لم يكن زادها في مبدأ رحلتها سوى كلمات من الفصحى وبعض آيات من القرآن. وهكذا ابتدأ على إثر هذه النهضة المدارس الأولى تشيد بسيطة متواضعة كتلك المدارس التي افتتحت في الغرب في عهد شارلمان والتي كانت أصولا للمدنية الغربية. ويذكر المؤلف أن هذه الحركة كانت معجزة، جعلت الشعب الجزائري يضحي بكل ما يملك في سبيل البعث الفكري والروحي اللذين هما عماد كل حضارة في سيرها الحثيث. إلى أن جاءت سنة 1936م، فإذا بجمعية الاصلاح تضل طريقها وتغرق في أوحال السياسة عندما ذهبت في القافلة السياسية إلى باريس للتفاوض حول الزعمات وأوراق الانتخابات، ناسية أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر.
من التكديس إلى البناء
يصب مالك بن نبي اهتمامه في هذا الفصل من كتابه على بحث مفهوم الحضارة، فيرى أن الحضارة مجموعة من العلائق بين المجال الحيوي (بالمصطلح البيولوجي) حيث ينشأ ويتقوى هيكلها، وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها. فعندما نشتري منتجات حضارة ما، فإنها تمنحنا هيكلها وجسدها لا روحها، هذا من ناحية الكيف. أما من ناحية الكم، فهناك فرق شاسع بين الحضارة الشيئية التي تعتمد على شراء المنتجات والعمل على تكديسها كحالة العالم الاسلامي، وبين بناء حضارة هادفة كتجربة اليابان. هذه التجربة تبرهن على أن الواقع الاجتماعي خاضع لنهج فني معين. ثم يدعو المؤلف العالم الاسلامي إلى أن يقتبس من الكميائي طريقته، فيعرض لنا مثالا من مجال علوم الطبيعة:”إن عملية التحلل الطبيعي للأورانيوم لا تدخل في نطاق الزمني للإنسان، إذ أن كمية معينة من هذه المادة ولتكن جراما واحدا، يتحلل نصفها طبيعيا خلال أربعة مليارات وأربع مئة مليون من السنين، ولكن المعمل الكميائي قد توصل إلى أن تتم العملية الفنية للتحلل في بضع ثوان”. وبالمثل يجد المؤلف أن عوامل التعجيل بالحركة الطبيعية بدأت تلعب دورها الكامل في دراسات الاجتماع، كما حصل مع التجربة الخالدة لليابان. فمن عام 1868 إلى 1905م انتقلت من مرحلة العصور الوسطى (بادرة حضارة) إلى الحضارة الحديثة. فإذا سلك العالم الاسلامي هذا المسلك لإنجاز مهمة (تركيب) الحضارة في زمن معين، يقرر المؤلف أن كل منتوج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:
منتوج حضاري = إنسان + تراب + وقت
وبناء الحضارة لا يكون على أساس من تكديس المنتجات، وإنما بحل المشكلات الأولية من أساسها: مشكلة الانسان، والتراب، والوقت.
الدورة الخالدة
يسعى المؤلف تحت هذا العنوان إلى دراسة سنن التاريخ التي لا تتغير ولا تتبدل، كما يشير القرآن إليها في سورة الفتح:“سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا”، وكما وضحها عمدة المؤرخين (ابن خلدون) في كتابه المقدمة.
وبناء على الشرطين الآتيين اللذين وضعهما لدراسته:
- هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي؟
- وهل يمكن للشعوب الاسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالتها الراهنة؟
يرى المؤلف أن نقطة الانطلاق لكل حضارة تتم بمزج العوامل المادية الثلاثة: الانسان، التراب، الوقت بواسطة المركب (= الفكرة الدينية). وللبرهنة على الشرط الأول يستعرض تاريخ الحضارتين الاسلامية والمسيحية. فالفكرة الاسلامية ولدت مع كلمة ‘إقرأ‘ بغار حراء التي انعكس مفعولها على العناصر الثلاثة (إنسان، تراب، وقت)، ومن ثم تركيب حضارة جديدة حملت مشعل التمدن والرقي لقرون طويلة. وأما الحضارة المسيحية الحالية، فيجد المؤلف أنها تسير سير الحضارة الاسلامية التي سبقتها زمنيا – ومهما يكن في هذا الأمر من غرابة – فإن التاريخ يقرر أن الحضارة تولد مرتين، أما الأولى: فميلاد الفكرة الدينية، وأما الثانية: فهي تسجيل هذه الفكرة في النفوس، أي دخولها في أحداث التاريخ. لذلك لم يكن حظ المدنية المسيحية كحظ أختها الاسلامية التي جمعت بين المولدين في الوقت الواحد نظرا لفراغ النفس العربية العذراء. فلم يكتب للمسيحية أن تعمل عملها (نظرا لنشأتها في وسط فيه خليط من الديانات والثقافات العبرية واليونانية والرومانية) إلا عندما بلغت البداوة الجرمانية في شمال أوروبا، حيث وجدت النفوس الشاغرة، فتمكنت منها وبعثت فيها الروح الفعالة التي اندفعت بها لتكون حلقتها في سلسلة التاريخ.
الشرط الثاني: هل يمكن تحقيق المبدأ القرآني في حالة الشعوب الاسلامية الراهنة؟
يستغرب المؤلف من الذين يترددون في الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، لأن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين الذي يمنح النفس مبدأ الشعور كما أورد المؤرخ كسر لنج في كتابه (البحث التحليلي لأوروبا). وهذا المبدأ يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس شروطه وقوانينه. وهو ما ترمز إليه الآية في سورة النور:”فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم”.
أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة
يستعرض المؤلف في هذا الفصل من كتابه نظريات عدة لمؤرخي الغرب التي تؤكد على الدور الايجابي الفعال للفكرة الدينية في تركيب (ظاهرة) واقعة الحضارة، مشيرا إلى أن في أفكار المؤرخ كسر لنج (تحليل الواقعة المسيحية) ما يمدنا بتخطيط تحليلي للواقعة الاسلامية بظروفها النفسية – الزمنية التي رافقتها. فيتخذ تخطيطا بيانيا ببعديه (زمن، قيم نفسية اجتماعية) كوسيلة لتتبع اطراد الحضارة الإسلامية باعتبارها دورة تنقسم إلى ثلاثة أطوار: النهضة، الأوج، والأفول.
الطور الأول (النهضة): يبتدأ هذا الطور عند ابن نبي (في التخطيط البياني يسميه بمرحلة الروح) من نزول كلمة ‘إقرأ‘ إلى آخر عام 38 بعد الهجرة (عام موقعة صفين)، وهو الطور الذي تحول فيه العربي من إنسان طبيعي غريزي إلى إنسان يمارس حياته الجديدة حسب قانون الروح، وذلك بفضل الفكرة الدينية التي تولت وظيفة ضبط الغرائز فيه. وهذا القانون هو الذي كان يحكم (بلال ابن رباح) حينما كان تحت سوط العذاب مع ترديده قولة ‘أحد..! أحد..!‘. وكذلك المرأة التي طلبت من النبي (ص) أن يقيم عليها حد الزنى.
الطور الثاني (الأوج): وهو طور انتشار الحضارة وتوسعها الذي استمرى إلى آخر زمن ابن خلدون. يشير إليه المؤلف (في الرسم البياني) بمرحلة منعطف العقل، أي أن الغرائز تشرع في التحرر من قيودها بقدر ما تضعف سلطة الروح.
الطور الثالث (الأفول): وهو طور انكسار الحضارة وانتهاء دورها التاريخي. يعبرعنه المؤلف بمرحلة الغرائز (في الرسم البياني). وفي هذه المرحلة تكون الغرائز انطلقت من عنانها وما عادت هناك سلطة عليها. ومن ثم فإن الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية قد انتهت وأصبحت عاجزة عن القيام بمهمتها تماما في مجتمع منحل، وبالتالي انتهاء دورة التاريخ (أو دورة الحضارة) في غضون الزمن.
العناصر الثلاثة: الانسان – التراب – الوقت
يخصص المؤلف هذا القسم من كتابه لدراسة وبحث العناضر الأولية في تكوين الحضارة، فيرى أن أي حضارة لا تملك في بدئها إلا ذلك الانسان البسيط الذي تحرك، والتراب الذي يمده بقوته الزهيد حتي يصل إلى هدفه، والوقت الضروري لوصوله. وكل ما عدا ذلك من قصور وجامعات وطائرات..، ليس إلا من المكتسبات، لا من العناصر الأولية.
الأستاذ محمد أزرقان – هولندا