سنن التغيير في القرآن – ذ. محمد أزرقان
أرسل لي أحد الأصدقاء رسالة عبر (واتساب) قبل حلول رمضان بيوم أو يومين يحثني فيها على قراءة القرآن وختمه في هذا الشهر المبارك. تأملت في كلام الرجل فخطر على ذهني السؤال التالي:
هل القرآن كتاب سنني تغييري.. أم هو مجرد للقراءة والتبرك؟!
في شهر رمضان المبارك ينشط كثير من الناس في قراءة القرآن ويعملون جهدهم لختمه، وهناك العديد من المسلمين يحملون أنفسهم على حفظه ظانين منهم أن الحفظ يكشف لهم أسرار معاني القرآن!
كثير من يحسبون على الدعوة ينفقون أموالا طائلة على إنشاء مدارس ومعاهد لتحفيظ القرآن بدلا إنشاء مؤسسات لفهمه وفك أسراره في علم النفس والإجتماع. لأن الحقل المفيد هو فهم ما يطلبه منا القرآن في معالجة إشكالياتنا النفسية والإجتماعية.
تلاوة القرآن والتهجد به وحفظ ما تيسرمنه له دوره بالتأكيد في تزكية الروح وترقيته…
ولكن حفظ القرآن مع عدم الفهم، لا يزيدنا إلا ابتعادا عن القرآن نفسه وتيها كما تاه قوم بني إسرائيل “مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (1). كان بنو اٍسرائيل يحفظون التوراه على ظهر القلب ولكن مثلهم كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبا من كتب العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها!
وهذه الآية تنطبق على المسلمين عندما ينفقون الملايين على إنشاء المعاهد لتحفيظ القرآن ولا يسعون إلى إنشاء مؤسسات تعليم حفظة القرآن كيف يكشفوا أسرار آياته ويفهموا منهجيته في تغيير النفس والمجتمع.
القرآن دعوة للإنسان إلى النظر وإعمال عقله والتمرد على كل القوانين والتقاليد التي تقيده، وترغمه على الإنحباس في القوالب الجاهزة، مسبقة الصنع. القرآن دعوة إلى نبذ التبعية، والتقليد، والآبائية، والإكراه، وظلم النفس، والإنفراد بالرأي.. وكما هو دعوة للتغييرما بالنفس والمجتمع، وبذلك يستحق أن يكون كتابا سننيا – تغييريا وليس كما يتخذه أغلبية المسلمين كتابا للتبرك والتمسح به!
ويكفي هنا أن نشير إلى آية التي تتحدث عن مفهوم التغيير “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (2)
ولبحث هذه الآية لا بد لنا من اعتماد منهج دراسات النفس والإجتماع لأن التفاسير القديمة ومنها الحديثة لا تذكرها إلا لماما ولا تعر أية أهمية لمنهج تجريها على الآية من جانبها النفسي الإجتماعي.
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” تمثل معادلة اجتماعية-تغييرية، هي آية من الآيات القليلات في القرآن التي تتناول قانون تغيير المجتمعات. وهذا القانون لا يتم ولا يتحقق في المجتمع إلا بتغيير ما بالنفس، وهو شرط أساسي أو شرط وجوبي (إن: حرف شرط ووجوب).
وأما إذا نظرنا إلى الآية من الناحية التاريخية فإنها تأخذ بعدا آخرا، بعد العلاقة المتبادلة بين الفرد من جهة وبين المجتمع من جهة أخرى. وهي علاقة وثيقة بين جانبي المسألة التي تترجم عن علاقة كونية تاريخية، إذ أن المجتمع يخلق الانعكاس الفردي (مجموعة سلوكيات يكسبها من المجتمع)، والانعكاس الفردي يقود تطور وتقدم المجتمع. وذلك ببناء شبكات علاقات اجتماعية وثقافية متجسدة في مؤسسات وهيئات.. .(3)
للآية إذن جانبين من وجهة نظر التاريخ، تغيير ما بالنفس الإنسانية من جانب والتغييرالإجتماعي من جانب آخر، هي علاقة عضوية متبادلة بين الجانبين.
وهذا ما قام به الرسول (ص) في بداية مسار الدعوة الإسلامية: تغيير نفوس تلك الصفوة المختارة من القرشيين. ترجم (ص) عبر هذا العمل نبضات قلوبهم وبطشات أيديهم وحركات أقدامهم ومواهب عقولهم إلى واقع يرى ويلمس من خلال التفاني في العمل والتضحية وتحمل المسؤولية.
إن بداية مرحلة الدعوة الإسلامية كانت مرحلة بناء الإنسان روحيا، تسمى في تاريخ الحضارات بمرحلة عمل الروح، فسرها المفكر الاجتماعي (مالك بن نبي) بقوله: “تفسر أولا بلغة علم الاجتماع حين نقول: إنها تتفق مع شبكة العلاقات الاجتماعية حين تكون في أكثف حالاتها، لا في أكثرها امتدادا، هذه الكثافة هي ما توحي به عبارة “البنيان المرصوص” (4)، ويمكننا أيضا أن نفسر هذه المرحلة بلغة علم النفس حين نقول: إنها تتفق مع المرحلة التي يكون الفرد خلالها في أحسن ظروفه، أعني الظروف التي يكون فيها نظام أفعاله المنعكسة في أقصى فاعليته الاجتماعية، وتكون طاقته الحيوية أيضا في أتم حالات تنظيمها” (5)
استعان (مالك بن نبي) في دراسة وبحث المرحلة المكية (طورالروح في عمر الحضارة الإسلامية) بالعلوم الاجتماعية. فهذه العلوم ترينا مدى قدرة التمكين في الأرض للمجتمعات عندما تكشف عن عناصر سر نهضتها التي أودعته العناية الإلهية في هذا الكون.
الإنسان عنصر من عناصرخلق الحضارة (6) يصاغ تبعا للقيم والأخلاق التي حددها المجتمع لرقيه ونهضته. وهذا الجانب يتولى دراسته علم الاجتماع ، يطلعنا على القائمة الإحصائية للأعمال والأنشطة التي أنجزها المجتمع ليعلي من شأنه بين الأمم ويخلد أثره في سجل التاريخ.
فكذلك الإنسان القريشي صيغ صياغة نفسية بالدين فغيرها من جذورها، أي غير سلوكه ونمط فكره الجاهلي، جعل منه إنسان الأناقة –بتعبير المؤرخ الإنجليزي توينبي- ضرب أروع الأمثلة في التضحية والتآخي، نتيجتها خلق مجتمع من المكيين والمدنيين تكونت بينهم روابط وثيقة وعمل اجتماعي مكثف لم يسبق له مثيل في التاريخ حتى صار أحدهم يقول للآخر: أطلق إحدى زوجاتي هاتين وإذا أكملت عدتها تزوجتها.
استطاع هذا المجتمع الفتي الناشئ أن يثبت في مواجهة المتربصين به رغم قلة زاده المادي والعددي لأن أسس شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراده كانت متينة قوية كالبنيان المرصوص لا يستطيع إنسان أن يخترقها. وفي الحديث:” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى العضو الواحد تداعى له سائر الجسد بالحمى
والسهر”(7) إشارة واضحة إلى متانة هذه الشبكة الإجتماعية.
إنها مرحلة (مرحلة الروح) العصر الذهبي بالنسبة لكل حضارة، والحضارة الإسلامية خاصة، لا من أجل أنها بلغت حينئذ قمة ازدهارها، وإنما كانت تتمتع بميزتين:
– قواها جميعها كانت في حركة، وهذه الحركة دائمة صاعدة. إنها المرحلة الديناميكية التي لا تفتر عن الحركة حيث لا نصيب فيها للدعك أو المعك (*)
– وكما هي المرحلة التي يدان فيها كل اتجاه نحو التقاعس والتخاذل. وهذه الإدانة حدثت في تاريخ المجتمع المدني حين تقاعس المتخلفون الثلاثة عن غزوة تبوك (**) (8)
هذه الطريقة التي اتبعها الرسول (ص) في تربية وتغيير سلوك أصحابه تشهد على دور الدين حين يكون في قمة حيويته ونشاطه. خلق من بدو الصحراء مجتمعا اضطلع بمهامه الأرضية وأدى نشاطه المشترك بفضل شبكة العلاقات الإجتماعية التي تكونت خيوطها في رحم الدين. هذه الشبكة الإجتماعية هي ترجمة العلاقة الروحية بين العبد وربه إلى الواقع، أي ربط أهداف السماء بضرورات الأرض. وآية “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”(9) تجسد هذه العلاقة بصورة جلية عندما يمنح الدين الإنسان المثل الأعلى في خلق نهضة تحفظ له كرامته وترفع من شأنه بين الأمم ويتحقق قانون إعمار الأرض (10)
وهكذا نخلص إلى أن تغيير ما بالنفس يؤدي حتما إلى تغيير المجتمع وذلك عندما يتمكن الدين من النفس فيغيرها وتتغير له وجه الحياة بأكملها.
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” قانون اجتماعي لا تغيير ولا تبديل له “فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا” (11) إنما دور الإنسان هو فهم قانون هذه الآية وجعله في خدمته وتصرفه، أي تغييرما بنفسه ليتغير واقعه الإجتماعي!..
المصادر
- ]الجمعة 5[
- ]الرعد [11
- ميلاد مجتمع، الجزء الأول، شبكة العلاقات الإجتماعية، تأليف مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق، دار الفكر) ص. 66
- “إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص” ]الصف [4
- ميلاد مجتمع، الجزء الأول، شبكة العلاقات الإجتماعية، تأليف مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق، دار الفكر) ص. 76
- إنسان + وقت + تراب = منتوج حضاري، معادلة حضارية صاغها مالك بن نبي، شرحها بإسهاب في كتابه شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي (دمشق، دار الفكر، ط 4 )
- حديث في صحيح البخاري
- ميلاد مجتمع، الجزء الأول، شبكة العلاقات الإجتماعية، تأليف مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق، دار الفكر) ص. 77
- ]الذاريات [56
- ميلاد مجتمع، الجزء الأول، شبكة العلاقات الإجتماعية، تأليف مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق، دار الفكر) ص. 79
- ]فاطر 43[
(*) مبدأ أو قوة الدعك في علوم الطبيعة يجعل حركة جسم ما تفتر.
(**) عوقبوا وعزلوا بالمقاطعة حتى ضاقت بهم الدنيا وبما رحبت لأن سلوكهم خالف سلوك الجماعة وتوجهاتها (قصة المخلفون الثلاثة روى أخبارها ابن هشام في سيرته).