رحلوا ولم ترحل آثارهم – ذ. عبدالقادر الصالحي

قد يمر بنا قطار العمر بمحطات ومواطن جميلة، ولا نشعر برونقها ونضارتها إلا عندما نبتعد عنها ويتوارى عنا أنظارها .. لهذا ليس من الضروري أن نتعايش مع أناس وجها لوجه حتى تربطنا بهم علاقات إنسانية جميلة ومشاعر أخوية، إلا أن في أكثر الأحيان لا نشعر بقيمة كثير منهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد رحيلهم عنا ويصبحون بعدها مجرد ذكرى، ولكن صور هؤلاء الغوالي لا زالت درة مكنونة في كياننا، ماثلة أمام أعينينا .. وعلى رأسهم الأم الحنون والوالد المبارك والأخ والأخت والأولاد وكل من هو عزيز علينا ونجله من علماء أجلاء وأدباء وشعراء من عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم.

فها هم قد رسموا لنا ذكريات على صفحات الحياة وتركوا خلفهم بصمات منيرة، قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم بين جوانحنا، محفورة في أغوار كياننا، تسرح بنا إلى عالم جميل نستمد من خلاله نور وعبق المحبة والحنين إلى الماضي بحيث نتذكر فيهم وبهم أجمل الذكريات واللحظات الجميلة برونق خاص وغصة بالقلب …

هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة وسقم وصحة و ألم وأمل….. وكما قال أحدهم:

ثمَانِيَةٌ تَجرِي عَلَى النَّاسِ كُلِّهِم *** وَلا بُدَّ لِلإِنسَانِ يَلقَى الثَّمَانِيَهْ

سُرُورٌ وَحُزنٌ وَاجتِمَاعٌ وَفُرقَةٌ  ***  وَيُسرٌ وَعُسرٌ ثُمَّ سُقمٌ وَعَافِيَه

نعم إنها سنة من سنن الحياة التي لا مفر منها فهم السابقون ونحن اللاحقون..
يقول الله سبحانه وتعالى
الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا

وقد رحل من هم أفضل منا ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من أهل الخير والصلاح ولكن رحلة الوداع لا زالت مستمرة إلى أن يشاء الله رب العالمين.

يقول أبو العتاهية:

الموت باب وكل الناس داخله ** فليت شعري بعد الباب ما الدار

الدار جنة خلد إن عملت بما ** يرضي الإله وإن قصرت فالنار

هما محلان ما للناس غيرهما ** فانظر لنفسك ماذا أنت تختار

وهكذا ثمة محطات بين الحياة والموت نعيشها ونحن سائرون نحو مصائرنا المحتومة وتذهب صور تلك المحطات إلا ما تركناه من بصمات وحسنات وذكريات طيبة لتفوز برضا الرحمن وتكرس في ذاكرة الآخرين الجمال الإنساني بالفعل والقول..

يقول أحدهم لبنيه وهو يجود بآخر أنفاسه: يا بَنِيَّ، عاشروا الناس معاشرة، إذا متم بكوا عليكم وإذا غبتم حنوا إليكم.

اللهم اغفر لكل من عشنا معهم أجمل السنين وهزَّنا إليهم شوق الحنين واغفر وارحم لكل المسلمين. اللهم اسْقِ كل ميت تحت التراب غيْثَ رحمتك يرتوي منه ترابه وتغسل معه ذنوبه وينجو بعدها من نار الجحيم يا أرحم الراحمين يارب العالمين.

بقلم: عبدالقادر الصالحي (خبير تربوي) -هولندا-

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *