دروس من حياة الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضي الله عنه) – ذ. محمد أزرقان
يعتبر عمار بن ياسر شخصية من الشخصيات التي أفدت روحها وحياتها في سبيل الدعوة الاسلامية. وهو من الأوائل الذين أذاقتهم قريش ألوانا من العذاب في سبيل هذه الدعوة، بل قتلوا أمه سمية وأباه ياسر أمام عينه، فكانت صدمة نفسية قاسية، لم ينساها طيلة حياته.
ولد عمار في مكة وعاش في قيد الرق مدة طويلة. وكان أسمر اللون أو لعله كان أميل إلى السواد من السمرة، ورثهما من أمه الحبشية. ومما تجدر الاشارة إليه أن القرشيين كان يحتقرون من كان لونه أسمر أو أسود. ومن علامات الشريف عندهم أن يكون أبيض. وكانوا يقولون في مدحهم لأحد رجالهم البيض:”أبيض يستسقي الغمام بوجهه”. واللون الأسود كان يرمز عندهم غالبا إلى العبيد.
وفي خضم الصراع الاجتماعي الذي نشب في عهد حكم عثمان وبعده، كان لعمار دور مهم في قيادة الثورة ضد الغوغاء. وكان يختلف مع الخليفة عثمان اختلافا كبيرا وينتقده انتقادا شديدا عندما يراه يميل إلى غوغاء بني أمية ومن هم على شاكلتهم.
كان القرشيون وخاصة منهم الغوغاء، لا ينفكون يطلقون على عمار (العبد الأسود). نعته بهذا الاسم مروان بن الحكم حين كان يحرض الخليفة عثمان عن قتله، بقوله:”إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس. وأنك إن قتلته نكلت به من ورائه”. فضربوه حتى أغمي عليه.
واشتكى خالد بن الوليد عمارا إلى النبي (ص) مشيرا إليه بقوله:”هذا العبد الأسود”.
وكان معاوية يراه مشاكسا خارجا عن القانون وفي معركة صفين قال عنه:”هلكت العرب إن أخذتهم خفة العبد الأسود”. وعمر بن العاص عندما يشتد الخلاف معه كان يعيره بنسبه الوضيع وبأمه الحبشية السوداء.
ولكن عمارا بإيمانه القوي كان يتحدى هؤلاء القوم بقوله:”إن الكريم من أكرم الله. كنت وضيعا فرفعني الله، ومملوكا فأعتقني الله، وضعيفا فقواني الله، وفقيرا فأغناني الله”.
إن منطق عمار ليعبر عن منطق الذين أساءت لهم الحياة عندما يتسلقون سلم الرقي الاجتماعي. وهذا المنطق لا يفهمه عيلة القوم وأصحاب الشرف. فأصحاب النسب والحسب يرون أن الشرف هو كل شيء في هذه الحياة، ولا يعدون أن المبادىء الانسانية فوق النسب والحسب.
كان عمار بن ياسر يكره القرشيين الذين عذبوه وأذاقوه الويلات ثم تكبروا عليه بمعايرته بالعبد الأسود وابن سمية السوداء. بينما هو كان يفتخر بأن أمه أول شهيدة في الاسلام، ويسمي نفسه بابن الشهيدة وهم يسمونه بابن السوداء.
ولعل القارىء يتساءل: كيف يحصل هذا والاسلام قد ساوى بينهم؟ الوعاظ وكتاب التاريخ لم يقفوا للأسف عند هذه الجوانب للنفس البشرية ويدرسوها على ضوء دراسات النفس والاجتماع الحديثة.
إن الجدال والخلاف البشري سببه أنهم يقيسون الأمور بمقاييس مختلفة. كل منهم ينظر إلى الأمور بالطريقة التي يستحسنها. فعمار يرى قريشا متكبرين فرطوا في نهج الرسول (ص)، وأما قريش فيرون عمارا ما هو إلا ابن سمية السوداء، لا يحق له أن يتطاول على شخص الخليفة.
حدثت مشاجرة بين عمار بن ياسر وبين عبدالله ابن أبي سرح أثناء بيعة عثمان، فتدخل ابن أبي سرح لصالح عثمان فثار عليه عمار قائلا:”متى كنت تنصح المسلمين؟!” فرد عليه أحد أنصار بني أمية قائلا:”لقد عدوت طورك يابن سمية، ما أنت وتأمير قريش لنفسها؟!”
من أبشع الشتائم عند عرب قريش أن يسمى الرجل باسمي أمه. فعمار يسمونه باسمه أمه، ويرون أنه تجاوز حده، إذ يتكلم في أمور ليست من أموره، بل هي من أمور أسياده القرشيين. أما هو فيرى نفسه أكرم وأشرف منهم حيث شرفه الاسلام وأكرمه، وهو أحق منهم بالكلام في أمر الخلافة. إنهم لا يفهمونه وهو لا يفهمهم. كل فريق ينظر إلى الأمور من زاوته الخاصة. إنها جدلية الخلاف البشري منذ أن استوطن الإنسان هذه الأرض.
إن سيرة عمار بن ياسر غنية بالعبر والدروس لمن يريد أن يعتبر. فقد دفع ثمنا غاليا وعانى معانات قاسية لم يتعرض لها أحد غيره. وكانت قصة تعذيبه مثلا صارخا للإضطهاد الانساني في تاريخ الدعوة الاسلامية، بل في تاريخ الثورات كلها. أخضعوه القرشيون مع أفراد أسرته لعذاب ليس من السهل عليه أن ينساه. قتلت أمه وقتل أبوه أمام عينيه ورمي أخاه من فوق جدار فمات في سبيل الدعوة القرآنية، وبقي آثار التعذيب في بدنه حتي آخر أيام حياته.
يحدثنا محمد بن كعب القرضي فيقول:”إنه رأى عمارا ذات يوم عاري الظهر، وكان متجردا في سراويل، فرأى في ظهره ندوبا وآثار جروح وأوراما. فسأله عن ذلك، فأجاب عمار:”هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكة”.
لم يوافق عمار على بيعة عثمان كخليفة حينما رأى مضطهديه الأولين يتخذهم عثمان ككتاب ومستشارين له في أمور حكم الرعية. كان عمار يريد البيعة للإمام علي، وكأنه اعتبر الخليفة عثمان رمزا لقريش.
ولما استقر الأمر لعثمان في تولي أمر المسلمين تألم ألما شديدا وظل يوجه النقد الشديد لعثمان دون انقطاع حتى النفس الأخير.
سئل عمار في معركة صفين:”يا أبا اليقظان..ألم يقل رسول الله: قاتلوا الناس حتى يسلموا، فإذا أسلموا عصموا دماءهم وأموالهم”. والسائل يقصد هنا أصحاب معاوية. فأجابه عمار:”بلى.. ولكن ما أسلموا.. ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا”.
فعمار كان يعتقد إذن أن القرشيين لم يسلموا حقا إنما استسلاما للأمر الواقع بعد فتح مكة وتظاهروا بالإسلام انتهازا للفرصة.
إن هذا التحامل لعمار على قريش فيه كثير من الغرابة. كان لا يبالي بإسلامهم الذين أعلنوه ولا بالعبادات التي يقومون بها. الدين بالنسبة إليه هو حسن المعاملة. أما العبادات فهي في نطره طقوس لا تغني عن الحق شيئا. بل أكثر من هذا، كان لا يرى الفرق بين عثمان وأشراف قريش. لامه الامام علي لوما شديدا لما سمعه يكفر عثمان، لأن الإمام علي كان يعلم علم القين أن عثمان رجلا مؤمنا فاضلا، ولكنه كان مسيرا لا مخيرا من قبل قومه من قريش. وهذا هو الفرق بين الامام علي وعمار بن ياسر. الامام علي يحكم الفكر والمنطق في إصدار الأحكام وأما عمار فتنقصه هذه الحكمة واختلط عليه الأمر. وتلك غلطة منه لا تغتفر.