حقيقة الانبهار بالحضارات التي تفتقد الجانب الروحي والأخلاقي – ذ. عبدالقادر الصالحي

هل الحضارة  بفكرها المادي الملموس، وتوجهاتها المبهِجة، وإنجازاتها الاستهلاكية المبهرة، مع افتقادها للجانب الروحي والأخلاقي هي النموذج الذي يجب أن يُحتذى به وتهفو إليه النفوس وتتطلع إليه العقول؟

 إن أية حضارة تفرط أو تلغي الجوانب الأخلاقية والروحية لا قيمة لكل ما تنجزه في ميزان العقلاء والحكماء، بل إنما تحكم على نفسها بالفناء العاجل أو الآجل. ومن أراد الحقيقة فليتصفح صفحات التاريخ لتخبركم أن فشل وانهيارات الحضارات الكبرى عبر التاريخ إنما هو نتاج التفريط  وإهمال الجوانب الروحية والأخلاقية، فكان التعلق بمغريات ومباهج الحياة وزخارفها هو القشة التي قصمت ظهر البعير، ومن ذلك انهيار حضارة الأندلس الذي كان سببها الانغماس في حياة الترف واللهو والمجون والانفصام الأخلاقي.

فلما حافظ المسلمون على دينهم، وتمسكوا بقيمهم وأخلاقهم، وصلوا حينها الذروة في العلم والمعرفة والاختراع، ولكن لما أصاب هذه الأمة ما أصاب الأمم السابقة من فساد في الأخلاق وهبوط مميت في القيم، وتسارع إلى اللهو والمجون والترف والفجور أذهب الله عنهم ما كان لهم من عز وسلطان في العلم والمعرفة والسيادة والابتكار، فضاع مجدهم واضمحلت قواهم.

 ولكن الذي يقض المضجع أننا نرى اليوم بعض المنبهرين من أبناء أمتنا  بقوة بعض الحضارات التي قامت على أسس مادية وعلمية واقتصادية فحسب، فظنوا أن هذه الحضارة المادية التي أهملت الجانب الروحي والأخلاقي هي المعيار التي يجب أن تقاس به الحياة، وتجلب به السعادة وتبنى به المجتمعات.

 نعم قد احتك أسلافنا الأوائل بحضارات كثيرة ومدنيات عديدة مثل الفارسية والرومانية والهندية والإغريقية احتكاكا قويا مباشرا، ومع ذلك احتفظوا بمبادئهم دون انبهار أو انهزام، ظلوا ثابتين على دينهم وأخلاقهم وشريعتهم، لم يؤثر بريق هذه الماديات في قيمهم وأخلاقهم ولم يسلب لمعان هذه الحضارات ألبابهم، ولم يخطف عقولهم، ولم يتخلوا عن هويتهم الإسلامية.

 لقد استفاد أجدادنا من هذه الحضارت، دون إلغاء لها ولا رفضها رفضا تاما، بل أخذوا منها ما ينفعهم ويلائم أوضاعهم. فتطلُّع النفس لما هو أنفع لها في دنْياها وأُخْراها أمر محمود شرعًا.

 فقد روى مسلم عن أبي هُرَيْرة قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((احرِصْ على ما ينفعُك، واستعِنْ بالله ولا تعجِز)).

لهذا فقد  استطاع أسلافنا أن ينتفعوا-على سبيل المثال- بالتراث العلمي الإغريقي بعد أن عربوه وهذبوه وأضافوا إليه، فهم لم يجدوا أي حرج ديني في اقتباس ذلك من غيرهم والزيادة والتفوق فيه ما استطاعوا، دون انبهار أو انكسار أو ذوبان للشخصية أو فقدان للهوية، مثلما وقع في هذا المستنقع الرذيل كثير من أبناء هذه الأمة الذين يأخذون ما يضرهم ولا ينفعهم.مة

 يقول الرافعي رحمه الله: “عَلِمَ اللهُ! ما فَتَنَ المغرورين من شبابنا إلاّ ما أخذهم من هذه الحضارة، فإنَّ لها في زينتها ورونقها أخذةً كالسحر، فلا يميزون بين خيرها وشرها، ولا يفرّقون بين مبادئها وعواقبها، ثم لا يقتنون منها إلا ما يدعوهم إلى ما يميت ويصدهم عما يحيي وما يحول بينهم وبين قلوبهم، فليس إلا المتابعة والتقليد.  “الرافعي”: (تحت راية القرآن).

إذن كيف لنا أن نتقدَّم وننهض بأمتنا مجددا، وما زال جيلنا أسيرا لِما يسمونه بمظاهر التقدم والتحضر، تاركًا تعاليمَ دينه وثقافته؟ كيف لنا أن نمضي قُدُما في دروب العلم والمعرفة، وما زال جيلنا يتتبَّع الموضة وتسريحة الشعر الغريبة والملابس المقطعة أو إسدال البنطلون من الخلف لينكشف شيء من تبانه أو عورته؟ وكيف لنا أن نتقدم، وما زال جيلنا في سباتٍ عميق؛ يركض خلف البرامج عديمة الفائدة؟ وكيف لنا أن نتقدم، وما زال جيلنا يخجَل من ثقافته، من لونه، من أصوله، ومن تعاليم دينه؟ وكيف لنا أن نتقدم وما زال جيلنا تحكمه مباهج الحياة ومغرياتها دون قيد ولا ضبط.

 لهذا لا بد من مواجهة هذا التيار المنحرف والفكر الجانح (الانبهار ببريق الحضارة المادية التي تفتقد جمال الروح والأخلاق) بشتى وسائل التربية والتوجيه وتبني حملات تحسيسية وتوعوية لوقاية شبابنا من الانفلات الديني والأخلاقي بمسمى التحضر، وهذا واجب على كل غيور على مستقبل هذه الأمة. كما أن تبصير أبناء أمتنا بعظمة حضارتنا الإسلامية وتاريخنا الإسلامي وردهم إليها واجب على كل من يحب لهذه الأمة أن تعود لتسود وأن ترقى في مدراج العلم والمعرفة دون انفصام في الدين والخلق. كما وأن معالجة الآثار السلبية التي استشرت في مجتمعاتنا من جراء الانبهار بالحضارات الأخرى هي التحدي الكبير الذي يقع على عاتق الدعاة والمصلحين والمسؤولين والمربين.

فأمتنا اليوم مدعوة لبناء نفسها ومجتمعها بناء جديدا وحديثا، في شتى المجالات (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية…) والطريق إلى ذلك هو تعميق الثقة بالنفس انطلاقا من الثقة والإيمان بالله، وإبراز الكيان الفكري لأمتنا، المتوافق بأصالته التربوية يمكن أجيالنا المقبلة أن ينهلوا من معين أية حضارة ما يحتاجونه لبناء مجتمعهم واقتصادهم، دون أن تحمل هذه الاستفادة أخطار الذوبان والضياع في متاهات تبعدنا عن ديننا وأخلاقنا وتراثنا الفكري المشرق.

فما علينا إذن إلا أن نعقد النية بكل صدق ونتحرك بكل همة، فرب همة أحيت أمة، وهذه الهمة هي التي تنقل الأمة من حال السكون إلى الحركة، ومن الانكفاء على الماضي إلى التوجه للمستقبل، وهي التي تنقل الجيل كله من الحيرة والإحباط إلى الأمل والعمل.

 ويبقى بث الأمل في نفوس الأمة، وتقوية ثقتها بنفسها، وبحضارتها، وبثقافتها وبهويتها الإسلامية هو الخطوة الكبيرة صوب  تحقيق الإصلاح الحضاري والفكري الذي نأمله لأمتنا الإسلامية والذي اسأل الله أن يكون قريبا.

بقلم: عبدالقادر الصالحي (خبير تربوي)

مكتب التحرير

1 Comment

  • الجانب الروحي مدخل مهم لاحياء الامم و تجديد الهمم و تشحيذ الارادات لكنه لا يكفي لصنع حضارة مادية فاعلة و موثرة في هذا العصر، لان الناس مولعون بالاستفادة المادية من الحضارات الاخرى و يتريثون في الاستفادة العقدية بل يتجنبونها. و هذا ما نلاحظه عبر التاريخ. المسلمون اخذوا من الحضارات السابقة الجانب المادي و كذلك فعل الغرب مع الحضارة الاسلامية، أخذوا منها الجانب العملي و طرحوا الجانب العقدي. و كذلك تفعل الصين و اليابان مع الحضارة الغربية. يستفيدون من علومها و تقنياتها و يرفضون عقائدها و فلسفتها.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *