حركة التاريخ وسنة التدافع الاجتماعي – ذ. محمد أزرقان
ذ. محمد أزرقان
من منا لا يتذكر دروس التاريخ التي كنا نتلقاه في مدارس المرحلة الابتدائية والثانوية. فكنا لا نفهم منها سوى منجزات الملوك والفاتحين. وكان علينا أن نحفظ أسماء الفاتحين وأسماء البلدان التي غزوها على ظهر القلب دون أن نطرح السؤال عن مشاعر المكبوتة للشعوب المغزوة.
والمتأمل في مادة التاريخ ضمن هذه المناهج التعليمية يجد أنها تعلم الأجيال كيف تصير غزاة عسكريين، لا علماء باحثين. فمنهجية الكتب المدرسية تقدم التاريخ للمتلقين عبارة عن حوادث كبرى وغنائم وفتوحات رائعة قام بها أبطال وشخصيات تاريخية عظيمة، تسلي عقولهم ويشتهون سماع قصصه ويتمنون أن يطول الوقت بهم لكي يتمتعوا بتلك الأمجاد والانتصارات التي حققها الأمراء والسلاطين.
منهجية الكتب المدرسية تعتمد في غاليبتها على أمهات كتب التاريخ القديمة. ومشكلة هذه الكتب تنظر إلى الأحداث التاريخية من زواية واحدة، ألا وهي “الأمجاد” التي حققها الفاتحون والاعجاب بما تم على يد السلاطين المتسلطين والمترفين من فتح عريض وغنائم باذخة. وأما الناحية الأخرى، وهي الشعوب المغزوة، فلا يعر لها أي اهتمام. فالشعوب المغزوة في نظرهم لا إحساس لها ولا يحسبونها. وإذا ثار ثائر من هذه الشعوب، كتبوا أنه يريد الافساد في الأرض وتمزيق شمل الأمة.
إن هؤلاء المؤرخون يتحدثون عن وجهة نظر الحاكم وينسون وجهة نظر المحكوم ومعاناتهم. وبهذا يغيبون طرفا مهما في صنع أحداث حركة التاريخ. فالتاريخ بهذه الصورة يمشي على قدم واحد أعرج.
ومما يؤسف له المرء حقا هو أن كثيرا من كتاب التاريخ في عصرنا هذا لا زالوا ينتهجون هذا النهج ويكتبون التاريخ كما يريده السلطان والأمراء، يمجدون فيه ما تم من فتح مبين على يد آباء وأجداد هذا السلطان وذاك الملك.
والواقع أن التاريخ البشري هو عبارة عن صراع بين المترفين وذوي السلطان وبين المصلحين الثائرين على الأوضاع الاجتماعية وعلى رأسهم الأنبياء والرسل. ومن يقرأ القرآن قراءة متأنية تأخذه الدهشة كيف يتحدث عن الصراع المرير بين جبارين من طراز فرعون وبين مصلحين ثائرين من طراز موسى. فتاريخ الأمم الذي يتحدث عنه القرآن هو صيرورة وحركة لا تهدأ ولا تفتر.
يؤكد القرآن في كثير من آياته على حقائق اجتماعية تاريخية لم يقف عندها للأسف المؤرخون المسلمون القدامى ولا حتى المعاصرون منهم بالدراسة والبحث. يقول القرآن في سورة الزخرف:”بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون”. وفي سورة سبأ:”وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين”. ويقول المترفون للنبي (ص):”أنؤمن لك واتبعك الأرذلون” (س. الشعراء). وفي سورة هود يقولون له:”ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي”.
ففي هذه الآيات ذم واضح لسلوك المترفين الذين كانوا يصدون عن دعوة الأنبياء. فالله لا يكاد يرسل نبيا إلى أقوام حتى يقاومه المترفون منهم ويؤمنوا به المستضعفون. فهذه سنة الله في الخلق، مترفون من جانب وثائرون من جانب آخر، هي سنن التاريخ. وهذه السنن لا نستطيع فهمها وجعلها في قيد تصرفنا إلا إذا قمنا بدراستها دراسة منهجية وافية، أي، النظر إلى جانبي المعادلة الاجتماعية: مترفون وثائرون.
والمؤرخون والباحثون الاجتماعيون المعاصرون ينظرون في التاريخ على أساس هذه السننية للتاريخ. فهم محايدون، يدرسون وقائع الفاتحين والسلاطين، كما هم يدرسون وقائع الشعوب المغزوة، فلا يميلون إلى جانب على حساب جانب آخر. فإذا جاز للفاتحين أن يفتحوا الأمصار، جاز أيضا للشعوب المفتوحة أن تسخط على الفاتح وتثار عليه. فالسيطرة والتمرد وجهان لعملة واحدة للتاريخ الاجتماعي، لا يمكن الفصل بينها، وإلا لما حصلت الحركة والتدافع الاجتماعي، وذلك هي:”سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا”، وفي آية أخرى:”سنة الله التي قد خلت في عباده”.
ومن الملفت للنظر أن القرآن يصف النزاع والصراع بين الأنبياء وخصومهم من المترفين وصفا مسهبا فيه كثير من التكرار. وهذا التكرار مقصود وله معاني ليتعظ القارئ بأن الحال لا يختلف عن أحوال الأمم السابقة، وأنه يجب عليه أن يعرف واجبه ويأخذ بالأسباب والمعرفة ليصنع التاريخ وإلا أحاله إلى مزبلته.
ولكن يبدو أن المسلمين المتأخرين لا يفهمون من هذه الحقائق القرآنية إلا القراءة والتبرك حتى صار عندهم القرآن كتابا خرافيا لا يصلح إلا للتعويذة والشعوذة. والبعض الآخر اعتبره سجلا للعلوم والفنون على اختلاف أنواعها. ففيه أسرار الذرة والفلك، وفيه الجغرافية وعلم طبقات الأرض، وفيه أسرار الفراعنة المحنطين في أهرامات مصر- كما قرأت في هذه الأيام القليلة الماضية عن فرعون موسى وعلاقته بإسلام (موريس بكاي) -.
إننا لا نبالغ إذا قلنا أن هذه الأفكار تخدر عقول أجيال المسلمين وتبعدهم عن فهم حقائق القرآن وسنة التدافع الاجتماعي. وهي أفكار يغرسها في عقول الأجيال أولئك الوعاظ والكهنة الذين يقتاتون على فتات موائد السلاطين والملوك المترفين. والواقع أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يختلفون كثيرا عن فرعون. فهم مستبدون وسفاكون للدماء، بعيدون كل البعد عن قيم القرآن ومبادئه. ومن ينكر هذا، فعليه أن يدرس دراسة حيادة للتاريخ الاسلامي من عهد بني أمية إلى يومنا هذا.
إن القرآن كتاب جاء لإحداث الثورة الفكرية والتغيير النفسي الاجتماعي وليس لإحداث ثورة العلوم الطبيعية أو علوم الإحياء. ولذلك فإن التاريخ الحديث عندما يدرس تطور وتقدم المجتمعات أو اندثارها لا يختلف مع القرآن في وصفه للحركات الاجتماعية. (فابن خلدون) استطاع بذهنه الثاقب أن يضع اللبنات الأولى للتاريخ الحديث بفضل اهتدائه إلى المنهج الاستقرائي، مضمونه أن الواقع البشري يخضع في جوهره إلى سنة الله في الخلق، وقراءة الأحداث التاريخية تتم طبقا لهذه السنة. وهكذا أدخل (ابن خلدون) العبقري ما يسمى بالفهم السنني إلى مجال التاريخ.
وباعتقادنا أن (ابن خلدون) نظر إلى الأحداث التاريخية في القرآن نظرة تختلف تماما عمن سبقه من مؤرخين وفلاسفة. فهم علل الأشياء واكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث التاريخية، كما جاء في مقدمته:”فإن التاريخ في ظاهره، لا يزيد على أخبار عن أيام، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات، ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق”.
اعتبر المورخ الانجليزي الكبير (توينبي) أن عمل (ابن خلدون) من أعظم الأعمال التي أنتجها العقل البشري في مجال التاريخ. فقد فكر (ابن خلدون) وتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل ميكانيزماتها، وليس كيف يجب أن تكون – كما فكر (ارسطو) من قبله -. وشتان بين منهج الاستقراء الذي اكتشفه (ابن خلدون) دون منازع وبين منهج الاستنباط (لأريسطو).