تأملات في فكر الفيلسوف الأخلاقي الصيني: Wang Fuzhi – ذ. محمد أزرقان

عودت نفسي على القراءة منذ أن وطأت قدماي هذه البلاد المباركة أواسط الثمانينات. بدأت بقراءة القصص والروايات السهلة الأسلوب. وعادة القراءة ليس من السهل كسبها إن لم تتحلى بالصبر والنفس الطويل، كما تشير الآية  في سورة الكهف:”واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي”. وبعد سنوات من ممارسة قراءة الكتب السهلة من روايات وقصص، انتقلت إلى تناول كتب الفكر الاجتماعي والتاريخي والأدبي. أستطيع أن أجزم هنا أنني قرأت في العقود الأخيرة من عمري كتبا لا يستهان بها في فروع شتى للفكر البشري. صارت قراءة الكتب جزء من حياتي، تحملني إلى عوالم أناس آخرين، كما يقول الأديب الأمريكي (أرنست همنجواي):”الكتب كلها تتشابه. وعندما تنتهي من قراءتها، تشعر بأنها أصبحت جزءا منك”. ويتحدث المفكر عبدالحليم أبو شقة في كتابه (نقد العقل المسلم) عن تحرر العقل بالقراءة فيقول:”إن حب القراء والبحث والاطلاع يفرض علينا أن نقف مع الاسلام في صف العقل والعلم مواجها ورافضا الخرافة وتعطيل التفكير. والعقل المتحرر لا يتم تحرره بغير القراءة المتفتحة على عالم الأفكار – كل الأفكار على اختلافها”. والقارئون المنفتحون على التراث والانتاج البشري هم الذين ينالون كرم الرب.

وفي هذه الأيام الماضية تناولت بالبحث والقراءة كتابا من الكتب المترجمة إلى الهولندية بعنوان: “الأحداث التاريخية العالمية لعام 1688م”، من إصدار دار (Ambo/Amsterdam) للطباعة والنشر.

يتحدث الكاتب في هذا الكتاب عن أهم الأحداث التاريخية التي سجلت في سنة 1688م . ولكن الذي أثار انتباهي في هذه الأحداث كلها هو تطرق الكاتب في الفصل التاسع لفكر الفيلسوف الصيني (Wang Fuzhi) الذي يعتبر من كبار حكماء وفلاسفة الأخلاق الصنيين. وفلسفة الأخلاق في الصين كانت تدعو منذ البداية إلى القيم والمبدىء الإنسانية وتحسين علاقة الانسان بأخيه الانسان. وهذه الفلسفة الأخلاقية الإنسانية سبق أن وضع أسسها – كما هو معرف في التاريخ الصيني – الفيلسوف المتنور الانساني (كونفشيوس) ورفيقه (لاوتسي).

ألف (Wang Fuzhi) أكثر من ستين كتابا، تبحث في مختلف فروع المعرفة البشرية. ومؤلفاته تمتاز بالجودة العالية – برأي الكاتب – من حيث اختيار المواضيع ومعالجتها معالجة قيمة، تنير العقل والروح. ويحسب على الجيل الأخير في حلقة أجيال التي آمنت بفلسفة (كونفشيوس) كفلسفة للحياة.

عاش في زمان سادت فيه الحروب والصراعات حول السلطة بين مختلف السلالات الحاكمة في الصين. وكان يرى أن السياسة هو شر ابتلي به الإنسان. السياسة بدون أخلاق، هي خراب لروح الأمة، ضررها أكثر من نفعها. وإذا كانت السياسة وجدت لتتولى تنظيم شؤون الناس، فعليها أن تلتزم وتنضبط بالأخلاق، وإلا فانتظر التحايل وسياسة الغاية تبرر الوسيلة من قبل السياسيين المخادعين.

السياسيون المفلسون، أصحاب المصالح هم الذين يذكون شعلة الحرب والصراعات ويسحقون الإنسان كحشرة، ويحولون هذا الكوكب الذي وهبه الله للإنسان إلى بؤرة خصومات وصراعات دموية. وفترات السلم عبر التاريخ الإنساني قليلة جدا بالمقارنة مع فترات الحرب. هذا السلم الذي كانت نفس الفيلسوف الألماني المتنور (إيمانويل كانط) تتوق إليه، فكتب رسالة كاملة خصها لمبادئ السلم بين الشعوب بعنوان: نحو السلام الدائم

عاش الفيلسوف (Wang Fuzhi) في خضم  الصراعات والحروب التي كانت رحاها تدور في الصين. ولكن لم يستسلم لها، بل تحداها وأنتج فكرا أخلاقيا يخدم قضايا الإنسان. فالسياسيون المخادعون عندما يموتون لا يبقى شيء من أعمالهم تنفع الناس. وأما المفكرون المصلحون الذين يحملون هم الانسان ويصونون كرامته، فيبقى فكرهم وإنتاجهم مسجلا على صفحة الزمن، ينتفع منه بنو الإنسان. والقرآن يتحدث عن هذه العلاقة بين الحق والباطل، فيقول في سورة الرعد: “أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ “.

يشيرالقرآني في هذا المثل إلى تلك العلاقة المشؤومة بين السياسة والأخلاق بصورة واضحة جلية. فعمل السياسة اللاأخلاقية يذهب جفاء، فينكسر ويندحر ولا يبقى منه شيئا يذكر، وأما عمل المفكرين والمصلحين وعلى رأسهم الأنبياء، فيبقى ويمكث في الأرض، ينتفع به الناس وكذلك يضرب الله الأمثال، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 إنها معادلة جدلية بين الشر والخير، بين الحق والباطل، ستبقى تلاحق هذا الإنسان وتصارعه أبدا ما بقي وجوده على وجه هذه البسيطة. فطوبى للذين اختاروا جانب خدمة الإنسان وتوجيهه وإعانته على الخير والصلاح.

وأحسب أن الفيلسوف (Wang Fuzhi) من تلك الزمرة الخيرة التي تخدم  خير الإنسان. كرس حياته كلها لهذا المهمة الجليلة الكبرى. وقد أورد الكاتب أنه في مغيب شمس عمره كتب كتابا ضخما بعنوان: دراسات تاريخية لحقبة كونفشيوس. كانت حياته كلها نضال وبحث وتوجيه وجهاد.

وبجانب الفلسفة الأخلاقية التي ألف فيها كتب مختلفة من الطراز الرفيع، كتب في الشعر أيضا مختلف القصائد تعبر عن معاناته كإنسان، بل ومعانات الإنسانية جمعاء. وهاكم هذه القصيدة التي كتبها وهو في سن السبعين.

القصيدة تقول:

نذرت نفسي أن أكون أفضل،

ولكن المرض باقي.

دون حمرة مشروبات الروحية

يظل وجهي شاحبا.

في يوم آخر، إذا أنا بقيت

سوف أظل أفكر فيمن ينبغي علي أسأله .

كما هو الحال دائماً يحدد السماء

إلى أين وجهتي.  

على طول النهر حيث حالة سقوط زهر البرقوق؛

فكذلك الحال مع أحلامي.

العودة الأولى لعصفور الخطاف

يعرف وجود أنثاه.

لا أزال أتصفح من خلال الوثائق،

بعد محاولة لا قيلولة بعد الظهر.

في مكان ما من خلال أوراقي

سمح لحشرة كريكيت مي- مي تردد.

من خلال القصيدة ندرك أن الرجل كان يعاني السقم والشيخوخة والمرض وهو في آخر أيامه، بل غاية الحزن الذي أصابه بسبب ما آلت إليه أحوال الإنسانية في عصره. وأنا أتصور أن فيلسوفنا قد ينسى همومه وأوجاعه ومرضه وهي طبيعية وهينة، إلا أن أوجاع الإنسانية همته وشغلت لب عقله، فشرع يكتب لها، يشخص عقمها ومرضها. والمرض هنا مرض ممارسة العنف كويسلة لتحقيق مصالح سياسية  قومية – دينية.

 إن معاني أبيات القصيدة ترمز- دون شك – إلى المعانات الإنسانية في زمان الفيلسوف (Wang Fuzhi) عندما كان المقامرون والمغامرون من أبناء جلدته يتصارعون كالثيران حول السلطة والحكم. فمنطق القادة العسكريون على مر العصور هو أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. لذا فلا يهمهم إذا قتل الآلاف أو الملايين من البشر للحفاظ على امتيازاتهم ومصالحهم، كما يحصل في أيامنا هذه في سوريا من تقديم آلاف من الأطفال كقرابين بشرية في سبيل صنم النظام الاجرامي.

إن السياسة بدون وازع أخلاقي هي تهديد لوجود الانسان ومصيره في هذا العالم. السياسة بدون ثقافة تضبطها ماهي إلا آلة تثير الحروب وتفني الانسان من أجل مصالح ضيقة مقيتة. وما يحدث في سوريا من قتل الأطفال والأهالي الأبرياء بالكيماوي، لا يرضى عنه إنسان يدعي الحقوق والقيم الانسانية، وما بالك بمن يدعي الإيمان بالله ويرضى بالاسلام دينا.

وصدق (رابليه) حينما قال:”العلم بدون ضمير ما هو إلا خراب للروح”، وكذلك فإن السياسة بدون أخلاق ما هي إلا خراب لروح الأمة.

ذ. محمد أزرقان – هولندا

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *