الفرنكوفونية و جذور التهميش المجالي في المغرب – ذ. محمد صالحي

مقدمة

هذا المقال عبارة عن خواطر و أفكار وردت علي في وقت ما. لم أفكر فيها من قبل و إن كان موضوع التهميش و الريف أحد اهتماماتي المتجددة باعتباري أحد ابناء المنطقة، و ليس كمتخصص أكاديمي أو وظيفي. لذلك وجب التنبيه إلى أن الموضوع ليس بحثا علميا أكاديميا، وإنما هو وليد قراءة عابرة و سريعة لتجربة شخصية الهدف منها إشراك الاصدقاء و ذوي الفضول المعرفي في فتح و إغناء النقاش و الحوار و تبادل وجهات النظر حول موضوع حساس و له تأثير كبير على واقع البلاد الحالي و المستقبلي. ربما يكون هناك من الشباب الباحث من يستطيع تطوير هذه التيمة وجعلها موضوع لبحث جامعي أكاديمي، و ما ذلك على الله بعزيز.

ماذا نقصد بالفرنكوفونية؟

مصطلح الفرنكوفونية استعمله لأول مرة عالم الجغرافيا الفرنسي (أونيزيم روكلو) لتوصيف مجموعة أو منطقة ما يتكلم أهلها ضمن حدودها اللغة الفرنسية (١). ثم تطور بعد ذلك ليصبح معنى لمنظومة معقدة و متشابكة من القيم الايديولوجية و اللغوية والثقافية و الاقتصادية و السياسة و الإدارية الهدف الرئيسي منها هو توطيد و ضمان مصالح فرنسا في الدول التي كانت سابقا مستعمرات تابعة لها بواسطة نخب وطنية محلية موالية لكل ما هو فرنسي و معادية أو لها مواقف سلبية من الثقافات و اللغات الاصلية في المستعمرات السابقة. كل هذا بدعم مادي و معنوي من الدولة الفرنسية لضمان استمرارية الهيمنة اللغوية الفرنسية على حساب اللغات الاهلية و باقي اللغات الحية. بل و تعمل على افشال و تثبيط كل محاولات الانعتاق و الاستقلال الثقافي و الاقتصادي و العلمي و السياسي لهذه الدول. من هنا أصبح للفرنكوفونية مذاق عفن و حمولة خطيرة جعلت كثيرا من المفكرين المناضلين يتوجسون الشر من استمرار هذا التحكم و النفوذ بعد مرور عقود عن حروب التحرير و الاستقلال. لقد ذهب البعض حتى إلى اعتبار الـ «فرنكوفونية دولة –مفهوما». وهذه الدولة –المفهوم» ليست بشيء آخر غير فرنسا، هذه الدولة التي تستخدم اللغة الفرنسية لغرض تحقيق تفوق اقتصادي، أو أساس يقوم عليه سوق عالمي يتدفق فيه المنتوج الفرنسي. أيضا قد تكون «أداة للعلاقات الدولية» تخدم هيمنة فرنسا سياسيا واقتصاديا أمثل مما تخدم «تمكاسك» و«تقدم» الدول الأعضاء، على الأقل السائرة منها في طريق النمو. (٢) 

نظرة تاريخية

أبتلي المغرب الاقصى كباقي دول المغرب الكبير وكثير من دول العالم في أواخر القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين بالاستعمار الامبريالي الأوروبي، لكن المغرب تميز عن باقي دول المغرب الكبير باستعمارين اثنين في وقت واحد. الاستعمار الفرنسي على شكل حماية ابتداء من ١٩١٢ و استعمار اسباني، كذلك تحت غطاء الحماية و مساعدة السلطان المركزي على تحديث البلاد و تحضيرها و تعزيز الامن في المنطقة الشمالية لصالح السلطان و إسبانيا، خاصة و أن اسبانيا تتحكم منذ أمد طويل في مدينيين مغربيتان (سبتة و مليلية ) و بعض الجزر الاستراتيجية الصغيرة على الساحل الشمالي للمغرب.

هذا الوضع الخاص لإسبانيا جعلها رغم ضعفها بالمقارنة مع منافسها الفرنسي تحضى بنصيب من الكعكة الاستعمارية امتدت من مدينة لعرائش غربا إلى وادي ملوية شرقا. و كذلك منطقة سيدي إفني جنوب المغرب و الصحراء الغربية التي تم تحريرها بالمسيرة الخضراء سنة ١٩٧٥.

المنطقة الشمالية تميزت بمقاومة شرسة للاستعمار الاسباني القديم والحديث لكن التفاعل التجاري و تبادل المصالح بين الاسبان وسكان المنطقة الاصلية ظلت قائمة و مبادرات التأثير الناعم من طرف اسبانيا تطورت بشكل مستمر من أجل استمالة المغاربة لقبول الوجود الاسباني عن طريق العمل الاجتماعي، خاصة في المجال الطبي و التعليمي و كذلك تجنيد كثير من أبناء المنطقة و دمجهم في وحدات الجيش الاستعاري الافريقي. واستمالة النخبة من شيوخ القبائل وأصحاب الوجاهة بالمال والاعطيات و تسهيل أمر تعليم أولادهم في المدارس الاسبانية في كل من سبتة و مليلية في المرحلة السابقة للاستعمار الحديث. و بعد نهاية المقاومة الريفية و استباب الامر للإسبان ابتداء من سنة ١٩٢٦-١٩٢٧ ستعمم المدارس الاسبانية في المدن الرئيسية للمنطقة المستعمرة و كذلك في بعض المراكز القروية التابعة للإدارة العسكرية الاسبانية. بحيث أنه (في عام 1956، كان لدى إسبانيا في المغرب بنية تحتية تعليمية هائلة، تعتمد على المدارس التابعة للدولة الإسبانية والمدارس الخاصة – الدينية

في تطوان وطنجة والعرائش وأصيلا والناظور والحسيمة، بالإضافة إلى وحدات مدرسية في سلوان و أشاون؛ وكذلك مدرسة الفنون التطبيقية في تطوان التي دربت مساحين وخبراء ومهندسين زراعيين ودراسات فنية أخرى ؛ مدرستان ثانويتان ، واحدة في طنجة والأخرى في تطوان ، وكلتاهما تعتمدان على ما يسمى بالمعهد الإسباني المغربي في سبتة في ذلك الوقت (بينو ، 1985: 2).

هذه النخبة التي تشكلت من المغاربة الريفيين كان أكثرهم من الفئات الميسورة ممن نالوا حظا لا باس به من الثقافة الاسبانية الحديثة مكنتهم من الولوج إلى الثقافة العالمية الحديثة بكل مظاهرها وتجلياتها. هذا طبعا كان مقصودا للاستعمار الاسباني من أجل احكام السيطرة على المنطقة و التمكين للهيمنة الاستعمارية الطويلة الامد و تكوين نخبة عسكرية و إدارية وثقافية موالية و تابعة لإسبانيا الاستعمارية. (لكن الرياح ستجري فيما بعد بما لا تشتهي السفن.) استمرت هذه الحالة من الهيمنة الثقافية الاسبانية إلى ما بعد الاستقلال بقليل. كانت الثقافة الاسبانية قد امتدت جذورها في المنطقة الشمالية وأصبحت جزءا من النسيج الثقافي المغربي في كل مظاهر الحياة. بدليل أن ساكنة المدن و كثير من سكان البوادي كانوا يتكلمون الاسبانية بطلاقة، و إلى اليوم نشاهد سكان الشمال سواء منهم الناطقين بالدارجة العربية أو بالأمازيغية يستعملون الكلمات الاسبانية و يتداولون المصطلحات الاسبانية في تواصلهم اللغوي اليومي. بل بعض القطاعات المهنية مثل عمال مراكب الصيد البحري تجدهم إلى يوم الناس هذا، رغم أمية بعضهم أو تعلمهم في المدرسة الفرنسية العربية   يغلب عليهم استعمال الكلمات التقنية الاسبانية بدل استعمال الدارجة أو الامازيغية أو حتى الفرنسية!

هذا يعني أن مدخل المنطقة الشمالية إلى الثقافة العالمية الحديثة قد بدأ من نافذة الثقافة واللغة الاسبانية وشق طريقه من خلالها و عليها أرتكز منذ البداية و راكم عبر القرون من الاحتكاك بالإسبان خبرة و تجربة جديرة بالتقدير و الاحترام. تجدر الاشارة إلى أن عدد من كان يتقن الاسبانية في المنطقة الشمالية بلغ تعدادهم ثلاثة ملايين مغربي، وهو ما يقرب من خمس سكان المغرب في ذلك الوقت حسب دراسة أعدها (بينو، ١٩٨٥:٢).

فماذا حدث بعد أن استعاد المغرب سيادته واستقلاله؟

من المعروف أن المغرب حصل على استقلاله بطريقة اتسمت بالتفاوض وليس بالمقاومة المسلحة، وأن كانت المقاومة المسلحة هي التي أجبرت الدول الاستعمارية على الدخول في المفاوضات. وهذا التفاوض لم يكن محل اجماع المقاومة المغربية وحذر منها كثير من المقاومين و السياسيين المغارية على رأسهم امير المقاومة الاسبانية و الفرنسية، الزعيم المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي. كذلك كانت هذه الطريقة لنيل الاستقلال سببا لتصفية الكثير من المقاومين والسياسيين وتسببت في الاقتتال الداخلي بين مغارية ما بعد الاستقلال. ما زالت تبعات هذه المرحلة تزعج وترهق ضمير التاريخ المغربي الحديث.

التفاوض يقتضي التنازل من أجل الوصول إلى حل وسط في أحسن الاحوال تكون النتيجة لا غالب ولا مغلوب، و في اسوء الاحوال يكون فيها القادم على النصر أقل استفادة من المتولي المنهزم. وهذا الأخير هو ما حصل في هذه المفاوضات. حيث خرجت فرنسا من المغرب في وضعية مريحة حافظت لنفسها على سمعتها و شرفها الاستعماري و على امتيازاتها، و هو الاهم، الاقتصادية و العسكرية و اللغوية و الثقافية. وما يهمنا هنا هو المسالة اللغوية. حيث هيمنت الفرنسية على كل مرافق الدولة بما فيها المنطقة الشمالية التي كانت تدار باللغة والثقافة الاسبانية الى جانب العربية والامازيغية. هذه المرة بمباركة شريحة واسعة من النخبة المغربية بكل أطيافها. وضع لم تكن تحلم به فرنسا اثناء الاستعمار! لا أدري هل كانت مفاوضات اسبانيا مع المغرب في جولة مستقلة أم أن اسبانيا نسقت مع فرنسا، هذه النقطة بقيت في دائرة الظل حتى في التاريخ المدرسي؟ لكن يبدو أن اسبانيا لم تحض بما حظيت بها فرنسا من حقوق لغوية في المناطق التي احتلتها رغم أن الامر بالنسبة لإسبانيا كان أكبر أهمية منه لفرنسا نظرا لمستعمراتها التاريخية القائمة إلى اليوم في شمال المغرب!!

هاجس بناء الدولة الوطنية المستقلة الموحدة الحديثة من طرف نخبة وطنية مغربية ومفرنسة وبدعم و تعزيز مدراء و خبراء و تقنيون فرنسيون أسرعت في مهمة توحيد الادارة المغربية تحت وصاية و هيمنة اللغة الفرنسية. هذه مرحلة مفصلية في فهم بداية التهميش الحديث لمنطقة الريف التاريخية، وربما يصدق هذا إلى حد ما على ما سيحدث لاحقا بالمناطق الجنوبية المحررة.

إن إلغاء اللغة الاسبانية وتعويقها و تصفيتها من مجالات الادارة و التعليم بشكل متدرج قد تبدو في ظاهرها مسالة إيجابية و من حسنات الاستقلال و مخرجات تصفية الاستعمار، هذا صحيح لو تم تبني اللغة العربية و الامازيغية كلغات وطنية مهمة في الحياة العامة و بقيت اللغة الفرنسية و الاسبانية كلغات وظيفية أو مثل الشر الذي لابد منه!! أو كما يسميها البعض (انها غنيمة حرب)!! يتواصل بها المغاربة مع العالم الحديث في المجال العلمي والتقني والمجالات التي تحتاج إليها دولة فتية حديثة خرجت للتو من ربقة الاستعمار والتخلف. لم يحدث شيء من هذا، وإنما الذي حدث هو أن هذا الإجراء الأحادي الجانب المتعلق بفرض الفرنسة والايديولوجية الفرنكوفونية على حساب الاسبانية واللغات الاهلية من عربية و امازيغية، بحجة التحديث و الوحدة الوطنية كان سببا مباشرا في تهميش جزء مهم من الشعب المغربي حيث رجع به إلى الوراء عقودا من الزمن وأدى إلى إهمال و إلغاء تجربة ثرية من التعامل مع جزء من المدنية الأوروبية الحديثة التي مثلتها اسبانيا. طبعا، اسبانيا لم تكن في وضع مثالي بالمقارنة مع فرنسا من حيث النموذج، لكنها دولة لها خبرة تقليد أداري و عسكري و ثقافي و علمي عريق بين الدول الأوروبية.

ما يهم هنا أكثر هو أن النخبة الريفية في هذه المرحلة من التاريخ، و ربما ينطبق هذا على النخب الصحراوية لاحقا، ممن تلقى تعليمه و تكوينه و خبرته في المنطقة الاسبانية اصبح بعد الاستقلال غير صالح للمساهمة في تنمية الدولة الوطنية المستقلة التي تهيمن على مفاصلها لغة المستعمر الفرنسي. بهذا تكون قد أغلقت كل أباب الصعود الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و الإداري و العسكري في وجه من قاوم الاستعمار بطريقة بطولية و تضحيات جسيمة. بدون شك أن كثيرا من هؤلاء و معهم عامة المواطنين الذين كانوا قد خطو خطوات كبيرة في صيرورة التمكن من اللغة الاسبانية و فتحت لهم آفاق جديدة من المعرفة و المهارات المهنية، تساءلوا عمن يقف وراء هذا الاختيار الاحادي و العشوائي و بدون استشارة و لا مراجعة لسكان هذه المناطق في دولة حديثة كانت نخبها تبشر بفجر جديد من الاستقلال و الوطنية و الديمقراطية الشورية!

بدون شك أن الخيبة و التذمر و الاستياء كان صادما و عاما. إذا أضيف إلى هذا تهميش النخبة الريفية العربية التي كونها عبد الكريم الخطابي اثناء المقاومة و بعد استقراره في مصر و تهميش جزء كبير من المقاومين المعارضين للاستقلال و تصفية كثير منهم من قبل رفاق المقاومة. بالإضافة إلى دور حزب الاستقلال في السيطرة على مرافق مؤسسات الدولة على الاقل في مدينة الحسيمة وتعيين شخصيات تابعة لحزبه غير مؤهلة في مراكز إدارية مهمة و ارتكابه لجرائم سياسية ضد من كان يعارض سياسته و غير هذا من الامور جعلت الوضع يحتقن.  ربما كان هذا التهميش السياسي و اللغوي أحد الاسباب التي أدت إلى اندلاع ما عرف فيما بعد بانتفاضة ٥٨-٥٩ في اقليم الحسيمة و التي مازالت تبعاتها السياسية والاجتماعية و الاقتصادية و النفسية بادية إلى اليوم.

المغرب الحديث ضيع فرصة كبيرة بسبب الأنانية و ضيق افق النخب المغربية التي قادت البلاد في ظل هيمنة الفرنكوفونية. هذه الفرصة كانت ستجعل المغرب بلدا ذات تعددية لغوية و نخبوية و مناطقية تحفظ التوازن السياسي و الثقافي و الاقتصادي للبلاد، لكن يبدو أن شعار الاستقلال و الدولة الوطنية و الديمقراطية … ككل مبدا انساني نبيل قد يستخدم لأغراض انتهازية مصلحية من أجل التمكين للتهميش و التفاوت المجالي.  فيروس الرغبة في الهيمنة و الاستتباع و التهميش الذي ولد مع ولادة الدولة الوطنية الحديثة، مازال يتوالد و يتناسل في عقلية و سلوك النخبة المغربية المسيطرة على مراكز الدولة. لكن يبقى الامل موجودا في بناء مناعة مضادة كافية لإعادة هذه النخبة إلى رشدها و حجمها الطبيعي. خاصة مع ظهور نخب مغربية أنجلوفونية، و اسبانوفونية، و أيطاليانوفونية إلى جانب النخب العربوفونية و الأمازيغوفونية….. إلى آخر ما تجود به العولمة من خيراتها و ويلاتها على هذه البلاد العزيزة.

http://aslimnet.free.fr/traductions/gharbi/fra4.htm  (١)، (٢)

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *