الشعب الهولندي.. وتعلقه بالقراءة والمعرفة – ذ. محمد أزرقان
عندما هاجرت واستقر بي المقام في هذه البلاد المباركة، كان كل شيء يبدو لي جديدا ومثيرا، نمط أسلوب حياة القوم، تختلف اختلافا كبيرا عن نمط حياة البلاد التي هاجرت وخرجت منها، سلوك الفرد يوحي بالثقة في النفس ورزانة في التعامل.
وفي تجولاتي الإستكشافية لأمستردام، كنت ألحظ كيف أن الإنسان الهولندي مهتم أشد الإهتمام بمصادر المعرفة: قراءة الكتب، تصفح المجلات والجرائد، زيارة المتاحف الفنية والتاريخية، عروض المسرح…أينما حل وارتحل هذا الإنسان، تراه يقرأ ويكتب ويسجل: في المعاهد، في النوادي، في دور الأحياء، على سطوح المقاهي، في الحدائق والمنتزهات…
يا إلهي…! هذا مدهش…!
ما الذي جعل هذا الإنسان، لا يكل ويمل من شدة القراءة والبحث؟! ما سبب حبه وشغفه بالقراءة وإقامة الأنشطة الثقافية والرسم والمسرح؟!
هذه الأسئلة كلها بقيت معلقة في ذهني تنتظر الأجوبة، والتي ساهمت دون شك في نموي للقراءة والبحث!
ومع بداية عام 1990م كانت روحي التواقة للمعرفة مهيأة والأجواء ملائمة لأبدأ القراءة والتنقيب دون تأجيل ولا تسويف، باحثا عن أجوبة لكثير من الاشكاليات الفكرية المطروحة لدي منذ طفولتي، والتي أراها العامل الحاسم والرئيسي في تحديد مصيري الفكري والثقافي. وثقافة الشعب الهولندي وشغفه بالقراءة جاء كتأكيد للمشروع الفكري الذي بدأت أشتغل عليه منذ تلك الفترة.
إن القراءة حينما وجدت، لم توجد هكذا عبثا، وإنما اكتشف الإنسان هذا السر الإلهي، ليتطور ويرتقي من مستوى متدني-لا أخلاقي إلى مستوى رفيع-أخلاقي.
فالقراءة والكتابة هما حلقتان من الحلقات المتميزة والحاسمة في تاريخ البشرية، بفضلهما استطاع الإنسان أن يميز ما بين الخير والشر، وبفضلهما حفظت التجارب والإنتاج البشري.
والقرآن يحدثنا عن القراءة والكتابة، فيقرنهما بكرم الرب:“اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [س. العلق]. فالمتأمل في هذا النص القرآني يجد أن كرم الرب لا يناله إلا القارئون. وكل ما ننعم به اليوم من ثورة (الانفوميديا Infomedia) هو من نفحات وبركات استخدام القراءة والكتابة خير استخدام.
الصبروالمداومة على القراءة تورث العقل والحكمة والسلام والثقة بالنفس، تجعل الإنسان يدرك خفايا وقدر نفسه، تحدد له المعالم على الطريق، يتزود بها لمواجهة المكاره والصعاب على الدرب. إنها الركيزة التي تعين الإنسان على حفظ كرامته وصنع مستقبل أفضل ومشرق.
وهذه الصفات كلها كانت تترائ لي في سلوك الإنسان الهولندي وأخلاقياته وأعماله. وبفضل حبه للقراءة صارت عنده القدرة والإطلاع على مصادر المعرفة والعلم ومهارة الإستفادة من التجارب، والتي على أساسها خلق مجتمعا متنورا متفوقا في جميع المجلات، مجتمعا متسامحا، يسود فيه الإستقرار والعدل والمساواة، واحترام كرامة الإنسان وحريته.
بيد أن هذه المهارات والقدرات ونعمة الإستقرار والعدل، لم يكتسبها المجتمع الهولندي بين عشية وضحاها، أو عبر برامج تربوية – تعليمية ملفقة واهية، بل هي برامج تجد أساسها في امتداد وعمق تاريخه، والأحداث الإجتماعية التي مر بها واختبرها. وبالتالي، كان من الطبيعي أن يحصل عند هذا الشعب وعي اجتماعي – سياسي، لمعالجة الإشكالات الناتجة عن الواقع الذي يعايشه ويحياه.
والمسلمون الذين عاشوا عقودا من الزمن في كنف المجتمع الهولندي، لم يروا في ثقافته إلا الجانب السلبي مما أدى بهم إلى الانعزال والتقوقع على الذات. ومصادر المعرفة المتاحة في المجتمع الهولندي هي آية من آيات الله سخرت لأجيال المسلمين، ولكن لم ينتفعوا بها – للأسف –، ففاتتهم فرصة الاستفادة من هذه الآية العظيمة. والقرآن يتحدث عن آفة التعطيل في الفهم فيقول:“وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون” (س. يوسف). أجل، لقد تعطل الفهم عند المسلمين فلا قدرة لديهم على الاستفادة من أعظم الآيات التي يمرون عليها وهم عنها معرضون.
إن مشكلة المسلمون ليست في الاسلام، وإنما المشكلة في فهمهم للاسلام. والمسلمون حينما هاجروا إلى بلد هولندا ليعيشوا فيه، نقلوا معهم أمراضهم فعاشوا في شرانق يغزلونها من أوهامهم. فثمة فرق كبير بين الدين والعادات. وما لم يتم الفصل بين ما هو دين وبين ما هو تقاليد وعادات، لم تقم للدين قائمة في هذا المجتمع ولن تستفيد الأجيال من مصادر المعرفة المتاحة في المجتمعات الغربية. وصدق المفكر الجزائري (مالك ابن نبي) عندما قال أن الأفكار كالفيروسات تنتقل عدواها من جيل لآخر.
ورب العزة قد أكرمنا بكتاب يعتبر منبعا لطاقة روح الانسان لا ينفذ أبدا، أو كما قال محمد إقبال صاحب كتاب: تجديد التفكير الديني في الاسلام، في مقابلة له مع (موسوليني):”إن القرآن منبع للطاقة لم يستهلك فيما يشبه العناصر المشعة في الطبيعة”. وهذا يدل على أن الاسلام سيبقى يمد البشرية بأفكار أخلاقية – إنسانية رائدة.
ولا يمكن أن نفهم معاني آيات القرآن التي تتحدث عن القضايا الكبرى للنفس والكون بأدوات قديمة تجاوزها الزمن. فعلماءنا اجتهدوا ووضعوا تفاسير لكتاب القرآن استجابة لمتطلبات واقعهم وظروف زمنهم، نأخذ بها للاستئناس وليس للتقييد. فآية “سنيريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” لا يمكن أن نفهمها بأدوات معرفية قديمة، بل نحتاج إلى أدوات جديدة لفك أسرارها وتتضح لنا معالمها الجديدة. وهذه الآية والآيات الأخرى التي تخبرنا عن بدإ الخلق مثل:”قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” و“يزيد في الخلق ما يشاء” تعتبر بحق نظرية للمعرفة الانسانية.
إن معاني هذه الأيات تراءت لي في الأفق البعيد عندما قرأت كتاب: تجديد التفكير الديني في الاسلام للفيلسوف محمد إقبال الذي يرى أن النبوة ختمت وانتهت، لأن العقل الانساني وصل مرحلة النضج، وبإمكانه أن يسير إلى الأمام معتمدا على ذاته وبدون مساعدة الوحي الإلهي. وهذا الانقلاب في التفكيرهو ما تشير إليه الآية التي مرت معنا “سنيريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.
ويرى الفيلسوف إقبال أن الوحي ظاهرة كونية، يمارسها النحل“وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون” (س. النحل). ولذلك فإن إقبال عاب على (سقراط) اليوناني الذي كان يرى أن معرفة الانسان الحقة إنما تكون بالنظر في الانسان نفسه، لا بالتأمل في العالم الذي يحيط بالإنسان، كعالم النبات والجبال والنجوم… وما أشد مخالفة هذا لروح القرآن الذي يرى في النحل على ضآلة شأنه محلا للوحي الإلهي. وكذلك (أفلاطون) – يقول إقبال – كان لا يأخذ بالإدراك الحسي ويراه يفيد الظن ولا يفيد اليقين. وهذا يتعارض مع تعاليم القرآن الذي يعد السمع والبصر أجل نعم الله على عباده، وأن الله جل وعلا سوف يسألهما في الآخرة عما فعلا في الحياة الدنيا.
إنني أسعى عبر هذه المقالات المتواضعة أن أساهم ولو بقليل في تنوير عقل القائمين على مؤسسات الجالية المسلمة في هذه البلاد، علهم ينتبهوا ويوجهوا جهودهم إلى الحقل المفيد: “تغيير ما بالنفس”، مستفيدين من مصادر المعرفة للمجتمع الهولندي. والحضارة الغربية تمدنا بأدوات وآليات عظيمة، تمكننا من فهم روح الاسلام وآياته في الآفاق والأنفس. وإذا وفقنا وحصل لنا الفهم الصحيح لآيات الكتاب التغييرية، فلا بد من أن تفيض بركاتها على الأجيال القادمة، بل حتى على المجتمع الهولندي الذي نعيش فيه لتعينه على إيجاد بعض الحلول لمشاكله الاجتماعية – الأخلاقية، كما قال المؤرخ الانجليزي (توينبي):”إن فكرة تحريم الخمر في الاسلام هي ترميز لإحياء العقل ودواء لأمراض الحضارة”.