الشدة والملمات ميزان لحقيقة الإنسان وإيمانه

إن حياة الناس قد تتقلب بهم من الأفراح إلى الأقراح ومن الشدة إلى الرخاء، ومن السراء إلى الضراء. وهكذا الحياة لا تدوم على حال، ولا تستقيم لأحد، فإن أحسنَت إليك يوماً أساءتك أياماً، وإن أضحكتك في زمن فقد تبكيك في زمن آخر..

هذه هي حقيقة الدنيا كأنها تقول بمقال الحال *** حذار حذار من بطشي وفتكي فلا يغرركم مني ابتســــام *** فـقولي مضحـك والفـعل مبـكي، والله قد نبهنا إلى تقلب الزمان والأيام والأحوال إذ قال الرب المتعال : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران)، فالدنيا إذا ما حلّت أوحلت وإذا ما كست أوكست وإذا أينعت نعت، لهذا حين تتقلب الأيامُ والأحوال بالناس، وجب عليهم أن ينتبهوا فوراً على أنهم في بوتقة امتحان واختبار مع الله وهذا هو المقرر في كتاب الله تعالى حين قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة).

وفي ظل الأزمات والملمات تتكشف مستويات الإيمان وليس من الإيمان في أوقات الشدة أن يصاب الإنسان بالتخاذل عن التعاون مع الآخرين ومد يد العون إليهم حسب القدرة والإمكانات، بل من الواجب أن يشعر بمن حوله بعين الرحمة والشفقة، وأن يفكر في أحوال بمن عصفت بهم هذه المدلهمات، وأن لا يظهر بتلك النفس الجموح التي لا تفكر إلا في نفسها وكأنها تعيش وقائع القيامة، حينما يقول العبد: نفسي نفسي -ولا حول ولا قوة إلا بالله-. لهذا يتحير المرء وتعتريه الحسرة والغرابة حينما يرى الناس في ظل أزمة -كورونا- يتهافتون على المحلات الغذائية لاقتناء حاجياتهم من المأكل والمشرب بكميات تكفي عشرات الأسر، وربما يصل بهم الجشع والحرص والطمع إلى الشجار والمناوشات، دون أن يفكر في الآخرين مَنْ هم كذلك في حاجة ماسة إلى هذه الحاجيات الضرورية بلا أدنى وعي ولا عقل راشد.

عبدالقادر الصالحي خبير تربوي

أين الرحمة؟؟ أين الإيثار؟؟ أين بذل المعروف؟؟ بل أين إيمانك؟؟؟

فقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في التعاون والإيثَار، ومَن يتأمَّل في قصص إيثارهم يحسب ذلك ضربًا مِن الخيال، بل كانوا لا يملكون مِن أمر الدُّنْيا شيئًا، ومع ذلك كانوا يفكرون فيمن حولهم ويبذلون المعروف ولو كان بهم خصاصة في صورة يعجز عن وصفها اللِّسان، ويضعف عن تعبيرها البيان:
إليك هذا الموقف الإنساني:
ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلَّا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن يضمُّ- أو يضيف- هذا؟ فقال رجل مِن الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلَّا قوت صبياني. فقال: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك (أي أوقديه)، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثمَّ قامت كأنَّها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين (أي جائعين)، فلمَّا أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحك الله اللَّيلة -أو عجب مِن فعالكما-،» فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر].

وإليك هذا الموقف الرائع:

يُروى عن حذيفة العدوي ، أنه قال : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ، ومعي شيء من ماء ، وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه ، فإذا أنا به، فقلت : أسقيك ؟ فأشار إليّ أن نعم ، فإذا رجل يقول : آه ..آه ..آه.!.

التضحية بالنفس خوفًا على الآخرين :
فأشار ابن عمي، أن انطلق بالماء إليه، قال : فجئته ، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت : أسقيك ؟ .. فسمع به آخر، فقال : آه .. آه .. فأشار هشام أن انطلق به إليه ، فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي، فإذا هو قد مات، رحمة الله عليهم أجمعين .

إنه الإيثار!! إنه بذل المعروف ولو في وقت الحاجة! إنها الرحمة!! إنها الإنسانية بكل ما تحمله من معنى!! ألم يقل صلى الله عليه وسلم:” أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس”

هكذا المسلم الإيجابي أن يكون فيَّاضا في العطاء وبذل المعروف والندى، ثابتًا حين تدلهم الخطوب، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن فعل الخير حين يفتر الآخرون، يمد يده للآخرين ولو كان به خصاصة، يصنع من الشمعة نورًا، ومن الحزن سرورًا، متفائل في حياته، شاكر في نعمائه، صابر في ضرائه، قانع بعطاء ربه له، مؤمن بأن لهذا الكون إلهًا قدّر مقاديره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

 

اللهم أصلح أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، وهذب أخلاقنا وطهر قلوبنا من الغل والحرص والجشع والطمع، وارفع مقتك وغضبك عنا، وطهرأرضك وعبادك من كل سقم وداء، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *