الثقافة ومهمة المساجد, قراءة في فكر مالك بن نبي – ذ. محمد ازرقان

الثقافة ومهمة المساجد, قراءة في فكر مالك بن نبي
ذ. محمد ازرقان

إن نشاط المجتمع المشترك لا يتكون في بساطة من مجرد مجموع النشاطات الفردية، حتى ولو كانت هذه الأخيرة من نفس الجنس، وحتى ولو كانت متحدة كلها في نفس الاتجاه؛ إذ يجب أيضا أن يتم تنظيمها في كنف النشاط الإجمالي يتولى تحديد فعالية هذا النشاط. فهذا (التنظيم) للنشاطات الفردية بالذات في كنف نشاط إجمالي مشترك هو الذي يضع على وجه الدقة مشكلة الثقافة.إن (العمل الصالح) للفرد الواحد و(العمل الصالح) للفرد الثاني لا ينضافان إلى بعضهما البعض بالضرورة، بل ويمكنهما في بعض الحالات المعينة حتى أن يلغيا بعضهما البعض.

ولفهم هذه الحالة نضرب مثلا من عالم مجتمع (النمل) الذي يمتاز بدقة بالغة أثناء قيامه بعمله. وأحيانا يبدو لنا أن (النمل) عندما يتشكل في مجموعة أنه ضل سبيله حتى لكأن غريزته تعوزه في هذا الحين بالذات، حيث نراه منهمكا حول فريسة يحاول كما هو المشاهد أن يسحبها إلى مسكنه، ولكن بما أن كل (نملة) تمضي في سحب الفريسة إليها، فإن الذي يحدث فعلا هو أن الفريسة تظل باقية في مكانها لا تريم.
وإذن فالعمل المشترك يستلزم بالضرورة تنظيم وتنسيق جميع المعطيات، وخاصة جميع الأفكار التي تنهض بالنشاطات الفردية.

وهذا هو السبب الذي يجعلنا نرى اليوم مساجد الجالية لا تتقدم في عملها قيد أنملة. فالجالية قد أقامت مؤسسات المساجد من خلال ذلك الهم المشترك لأفرادها: “إيجاد الأماكن للصلاة”. وفي هذه الحالة كانت الأشياء مكتفية بنفسها على نحو من الأنحاء، بقدر ما كانت تلك (الانطلاقة) توفر للنشاطات الفردية بواعثها المعللة Motivation) ( من حيث هي كانت تفرض على العموم ضروبا من السلوك البسيطة بما فيه الكفاية، كما كانت توفر في ذات الوقت الباعث المعلل لنشاط مشترك يسعى لإيجاد مكان للصلاة.

ولقد تم اليوم بلوغ ذلك الهدف. وفي الحد الذي فقد فيه (النشاط المشترك) على نحو من الأنحاء باعثه المعلل المعتاد، حدث عندئذ ما يشبه الانحسار في النشاط الفردي الذي انسحب من النشاط المشترك، مما نتج عنه ظهور النزعات الفردية كرة أخرى في نفس الحدود التي لم تع فيها الجالية بعد البواعث المعللة لنشاطها المشترك الجديد.
فوجوه نزعات تسيير إدارة المسجد من غير معرفة وعلم، والمخالفات والتعديات التي نلاحظها في ضروب سلوك الأفراد القائمين على مؤسسات المساجد يمكنها أن تفسر باعتبارها أعراضا لتلك النقلة بين المرحلة تأسيس المساجد وما بعد المرحلة التأسيسية. والواقع أن مؤسسات المساجد والقائمين عليها لم يكن في مقدورهم ومؤهلاتهم العلمية في مجابهة المشاكل التي نتجت عن مرحلة ما بعد التأسيس التي لا تكتفي بالتضاعف فحسب، ولكنها تتعقد بمظاهر نفسانية صبيانية لا يقبلها العقل ولا المنطق.

ولقد رأينا كيف أن هذه المؤسسات قد فوتت على نفسها فرصة بناء جسور العلاقة مع بعض أبناء الجالية الذين توفر لديهم نصيب من المعرفة والعلم في ترشيد وتزويد مؤسسات المساجد بمهارات إقامة أنشطة لمختلف مستويات أبناء الجالية، وإفادتهم في تسيير إدارة المساجد تسييرا يناسب الظروف والواقع الذي نعيش فيه.
ثم من جهة أخرى نجد هذه المؤسسات قد عجزت عن عقد مجمع يتناول فيه موضوع توحيد الرؤية والهدف من أجل لم الشمل وتوحيد الجهود بطريقة لا تؤدي بنشاط مسجد فلان، ونشاط مسجد علان إلى أن يلغيا بعضهما البعض، لأن وضعية المجتمع الذي نعيش فيه تتداول وتدار فيه مثل هذه التكتلات والمجمعات، كما رأينا ذلك يحدث عند مجامع المسيحية بمختلف توجهاتها من أجل توحيد وتنظيم (النشاط المسيحي) تنظيما فعالا بحيث لا يؤدي إلى إلغاء نشاط بعضهم بعضا، وطبعا هذا كله يتم تحت مظلة المفهومية أو الثقافة المسيحية.

والجالية ومؤسسات مساجدها لا يمكن لها –مهما حاولت- أن تحدث سلاما فيما بينها وفي عملها إلا بالتوافق، والتوافق لا يصنع إلا على أساس ثقافة راقية. إن مؤسسات مساجد الجالية مدعوة اليوم إلى ترويج ذلك الروح للمجتمع الإسلامي الأول عندما كان يسمع نشيد الإسلام الفتي في أعماق روحه، ذلك النشيد الذي كان يسوق الأبطال إلى ميادين القتال، أو إلى حظائر الشغل سواء. إلا أن هذا النشيد الذي كان يقود الشعب المسلم، كان عندما تتعلق القضية بمصيره، إلى ميادين القتال أو إلى حظائر الشغل، لا ينبعث من العدم، أو من مجرد ارتجال أدبي أو موسيقي، ولا حتى من صرخة الألم التي يطلقها إنسان جريح؛ إنه النشيد الذي ينبعث من روح الشعب ذاتها، من تقاليده، من تاريخه، ومن كل ما يجعل عمله أو نضاله مقدسا في ناظريه.

إن مسؤولي الجمعيات ومؤسسات المساجد وأئمتها مدعوون اليوم إلى وقفة تعقل وتأمل وأن لا تأخذهم العزة بالإثم، ليروجوا من فوق منابرهم لهذا النشيد المنبعث من أعماق الروح الإنسانية، وأن يعيدوا النظر في خطاباتهم وخطبهم في يوم الجمعة من أجل إذكاء شعلة روح المسلم ليصير (كعمار بن ياسر) بطل الشغل الذي سمع هذا النشيد في غور روحه، عندما كان يحمل صخرتين بدل صخرة واحدة لبناء المسجد الأول في الإسلام بالمدينة. وهذا لا يتم طبعا إلا إذا فهم أئمتنا أصول الثقافة الراقية التي كانت بمثابة دستور أخلاقي للحياة عند (عمار بن ياسر)، ثقافة الروح الجماعية والعمل التطوعي. فالفضيلة كل الفضيلة لأئمتنا أن ينتبهوا إلى هذا الأمر الخطر الذي يهدد شرائح الجالية بأكملها ليغيروا من أدبيات خطاباتهم وخطبهم التي لا أثر لها في تغيير حالة إنسان الجالية الغارق في التخلف والغثائية، سواء في مسكنه وحيه أو عمله.
وعلى الأئمة أن يدركوا أن النصوص التي يسردونها في خطبهم لا علاقة لها بواقع الجالية. لأن الأمر لا يخص المجال الغيبي، وإنما يخص بالضرورة النشاط الإنساني في واقعه المعاش؛ ونحن إذا راجعنا تاريخنا نجد ثغرة تعزى للنهضة الإسلامية التي وضعت بطريقة ضمنية مشكلة متعلقة بالإيمان في مكان غير مثارة فيه؛ فالمسألة لا تتمثل في تلقين أو في إعادة تلقين المسلم عقيدته كما يتوهم كثير من الخطباء؛ ولكنها تتمثل في إعادة تلقينه استخدامها وفعاليتها في مناحي الحياة، إلا أن المصلحين قد أغفلوا وضع هذه المشكلة.

ومن وجهة نظر الاجتماع فإننا تجابهنا الظروف التاريخية بمأزق أحيانا، بحيث يتعين علينا أن نختار بين التمسك بحرفية الدين، أو بروحه، ما دام التمسك بروح الدين لا يضيع جانبا جوهريا منه!…

وحادثة (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) في عام (الرمادة) تعلمنا كيف نربط النص بالواقع، وهذا العمل يفتح للفقه الإسلامي طريقا يحسن بنا أن لا ننساه.
فالواقع والنص ياساداتنا الأئمة يشكلان وجهين لعملة واحدة، فلا يمكن أن تتحدث عن النص بمعزل عن الواقع، وهي منهجية القرآن.
فالحديث عن النصوص بمعزل عن الواقع طوباوية ومثالية، لا نصيب لها من الصحة في واقع المسلم، ولو تحدثنا عنها بكلام جميل وأسلوب منمق من فوق المنابر وفي مجمع الخطباء. فالمشكلة نجابهها كجالية في أحياء مساكننا وأماكن عملنا وفي مدارس أبنائنا، وبكلمة واحدة في تخلفنا وسلبيتنا.
إن مجتمع الجالية مجتمع مفكك الذرات، كما كان المجتمع العربي الجاهلي، مجتمعا عاجزا عن الاضطلاع بنشاط مشترك، وبالتالي محكوما عليه بأن يقبع على هامش التاريخ.

ومن وجهة النظر علم النفس، يجب أن تبين تربيتنا كذلك أن خط سير نشاطنا الشخصي أو الجماعي يجب أن يمر بين ذهانين نفسانين يبدو أنهما ينتابان مسلم الجالية ويفسدان عليه العمل، وهما: ذهان (الشيء السهل)، الذي لا يستدعي أي جهد، والذي يستميلنا إلى الكسل؛ وذهان (الشيء المستحيل) الذي يجعلنا نحكم مسبقا ومن أول وهلة بأن النشاط والعمل الجماعي فوق وسائلنا، مما يفضي بنا على هذا المنوال إلى الشلل التام. إن من مهمة المسجد أن تشيع هذا الروح وتبصر الجالية بأن: ليس هناك (شيء سهل) ولا (شيء مستحيل) وإنما هي وسطية كما نادى بها الدين، ولكل مشكلة واقعية حلها في إطار الجهد الذي تستلزمه. ويجب أن نتحرر خاصة من جميع ضروب العطالة التي توقف الجهد، ومن سائر أعذار العطالة التي تبرر كسلنا.

وضمن هذا الاتجاه نرى أن التطهير النفساني لا يخلو من فائدة إذا ما استعمل في مجتمع، -كمجتمع الجالية- ينطوي على الكثير من (المركبات النفسية) القائمة في العديد من ضروب الخجل المكبوتة؛ ومثل هذه العقد تقيم بين أفراد الجالية تخوما أخلاقية يزداد محذورها بالقدر الذي تتمكن فيه ضروب الخجل المكبوتة تلك من الإفصاح عن ذاتها في بساطة بالارتكاس المؤدي إلى (الجريمة). فالإدماج المتكامل لجميع الأفراد داخل جماعة الجالية يستدعي إلغاء تلك التخوم وتصفية العقد المخجلة والدعوة إلى الإقرار بأخطائه الماضية، وإراحة ضميره من عبء إثم كان يرضخه لضغط داخلي لا يحتمل، جاعلا منه شخصا فاقد الصلاحية بالنسبة إلى النشاط المشترك.
إن هذا التطهير النفساني مارسه المجتمع الإسلامي الوليد، لغايات تطهيرية في تلك الضروب الذائعة الصيت من (الإقرار بالذنب، أو الإعلان عن الخطيئة) من مثل اليوم الذي اعتقد فيه الخليفة (عمر) أن نفسه قد أثملتها نشوة السلطة، فما كان منه إلا أن استدعى (الصحابة) وجمعهم حول المنبر، ليعلن أمامهم التوبة: أنه لم يكن شيئا مذكورا، وأنه لا يعدو كونه مجرد راعي ماشية جعل منه الإسلام خليفة.
وهكذا يكون (عمر) العظيم، الذي نعرف مدى حساسيته الأخلاقية، أول من فتح طريق محاسبة النفس أو ما يسمى (بالنقد الذاتي).

ولقد سبق للمجتمع المسيحي أن مارسه أيضا بشكل آخر، ولغايات مغايرة، فيما يعرف عنده (بكرسي الاعتراف).
إن أفراد الجالية الذين يعيشون حالة انعزال وانزواء متذمر، تحملهم أحيانا على الانقطاع الاجتماعي التام في نفس كنف أسرتهم الخاصة… وبالتالي تجريدهم من إنسانيتهم، وانتزاع منهم حتى مجرد انتواء الاحتكاك البشري، بحيث يموت المجتمع في قرارة طواياهم.

فالمشكلة التي توضع اليوم أمام الجالية وعلى رأسها مؤسسات المساجد، إنما تتمثل في تجديد الموثق أو (الحلف) القابل للاضطلاع بإقامة الوحدة للجالية والنهوض بالطاقات التي انتابها التخاذل والتقاعس لفترة من الزمن. وللأئمة في هذا المجال دور لا يستهان به في نشر وإشاعة الثقافة التي تعالج مشاكل الواقع مستقرئين في ذلك طبعا النصوص الدينية. وأما ما عدا ذلك فهو مزيد من تذمر وتقوقع حول النفس والمصالح الشخصية الضيقة، وساعتها لا نلومن إلا أنفسنا كما جاء في الحديث القدسي: “يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمدي الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”.

والحديث هنا يشير إلى قيم روحية زمنية، تحصي للعبد كل عمل وكل خطوة يخطوها في اتجاه مساهمة في وضع أسس ثقافية مشتركة تهدف إلى خلق مجتمع تشحذ فيه الهمم للتصدي للمشاكل التي تعبر عن تخلفنا في الأحياء التي نقطنها والأماكن التي نتردد عليها.

مكتب التحرير

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *