التيار السلفي في عصر الربيع العربي – ذ. موسى مركوش
التيار السلفي في عصر الثورة المضادة
شاع في الفترة ما بعد اندلاع ثورات الربيع العربي استعمال مصطلح “الاسلام السياسي” في وسائل الاعلام العربي و العالمي كعنوان جامع لمجمل الحركات الاسلامية النشطة في المجالات الدعوية والاجتماعية و بدرجات متفاوتة في المجال السياسي.
تعميم مسمى واحد على الطيف الواسع من التيارات الاسلامية المنتشرة عبر ربوع العالم الاسلامي، رغم اختلاف اطروحاتهاومناهج فهمها للإسلام و طرق تعاطيها مع الواقع لدرجة التناقض بل التصادم ليس عبثا بل انه مقصود، فهو يخدم اجندات الانظمة العربية التقليدية و حلفائها من العلمانيين الرادكاليين وبرامج التيارات الديماغوجية اليمينية المتطرفة المناهضة للحضور الاسلامي في الغرب، إذ استغلوا خطاب العنف وعمليات الارهاب التي تصدر عن تيار محدد يرفع شعار الاسلام، فوسعوا اطار التهمة بالعنف والارهاب ليشمل كل التيارات ذات المرجعية الاسلامية بغية تشويهها لدى الرأي العام المحلي و العالمي، و بالتالي تحجيمها في أحسن الحالات، وفي أسوئها استئصالها بالحديد و النار كما يحدث في مصر بغية إهالة التراب عليها بصفة نهائية.
سأحاول هنا ما وسعني الجهد وأسعفتني الإمكانات إبراز جانبا من الإختلاف بين مكونات ما يسمى عربيا بالحركات الاسلامية وعالميا بالاسلام السياسي، وذلك من خلال تسليط الضوء على التيار السلفي لكونه صار يشكل رقما مهما في المعادلة السياسية وفاعلا بارزا في حقل الدعوة في العالم العربي منذ انطلاقة أولى شرارات الثوررات العربية التي أطاحت برؤوس كان يظن أن إسقاطها مستحيل: مبارك، بنعلي والقذافي، بل إنه سيكون قطب الرحى في إسقاط سلطة الاسلاميين الوسطيين في أكثر من بلد عربي.
التيار السلفي الغى اربع عشرة قرنا من الاجتهاد والتقاليد الاسلامية
التيار السلفي يعلن نفسه بديلا لأربعة عشر قرنا من الاجتهادات الفقهية التي تبلورت عنها مدارس فقهية شهيرة ومن تقاليد تربوية تطورت لتشكل طرقا صوفية اشتهرت بعنايتها بترقية المؤمنين في مدارج الصلاح وتيارات فكرية وفلسفية اهتمت بجوانب الوجود المختلفة.
كل هذه الموروث الفقهي والصوفي والفكري والفلسفي يراه السلفيون خروجا و بعدا عن المنهج الحق، منهج السلف الصالح الذي يمثلونهم هم وحدهم. ومثل هذا الموقف يشي بأن المسلمين منذ قيام الدولة الأموية لم يفهموا من الاسلام شيئا بل ضلوا الطريق، وعليهم أن يعودوا إليه إن طوعا او كرها.
شجعت الانظمة التقليدية نمو وانتشار السلفية لأسباب أهمها:
١. اهتمامها بالنصوص بعيدا عن البحث في إمكانيات وكيفيات وآليات تطبيقها العملية في المجتمع فلم يهتموا بالتنظيرلإصلاح المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ولم يصدعوا رؤوسهم بالمطالبة بالمشاركة السياسية، ولم يشاركوا يوما في مسعى المناضلين من أجل إسقاط الاستبداد وإقامه دولة المؤسسات، بل إنهم كانوا ولا يزالزن يرون ذلك فتنه، يشددون على أتباعهم بضرورة الإبتعاد عنها. بعبارة أخرى، ليس لهم برنامج سياسي واضح، كل ما ينادون به هو ضرورة العودة الى حالة المدينة المنورة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. على خلاف تيار الاسلام الوسطي الذي يسعى الى السلطة بطرق سلمية للعمل من خلال مؤسسات الدولة على إصلاح المجتمع على ضوء تأويل حديث لقيم الاسلام و مبادئه.
بسبب مواقفهم تلك لم يكونوا يشكلون خطرا وجوديا على أنظمة الإستبداد التقليدية، بل رأت فيهم حليفا استراتيجيا لها في مقاومة المد الاسلامي الوسطي.
لقد نجح السلفيون في إبعاد قسم كبير من الشباب عن ساحة النضال من أجل مجتمع الحق والقانون ودعم قضايا التحرر من ربقة الحكم الفردي الشمولي، ليشغلوه في قضايا جانبية وسطحية غير ذات بال كما كان ينعتها الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كحرمة الخل وإسبال الإزار ونجاسة الكلب وعورية صوت المرأه وحرمة المظاهرات لما في ذلك من خروج على ولي الأمر المتغلب وأخرى عقدية، فراحوا يعددون الشركيات و يحذرون من الوقوع فيها.
٢. إضعاف الحركات الاسلامية الوسطية كالاخوان والنهضة و العدالة و التنمية ومثيلاتها من الحركات التي تبنت التغيير من خلال النضال السياسي، وانتهاج أساليب الضغط المتنوعة على الانظمة من أجل حملها على الاصلاح في إطار اللعبة الديموقراطية. نتائج الانتخابات النيابية التي سمح للاسلاميين الوسطيين بالمشاركة فيها قبيل الربيع العربي أبانت على قدرتهم الكبيرة على تحريك الناخب لصالح مشروعهم في أكثر من بلد عربي : مصر، فلسطين، الأردن، المغرب، تونس. الأمر الذي أفزع الأنظمة وجعلها تشجع المنابر السلفية وتترك لها المجال تتوسع بشكل سريع لتشكل منافسا قويا لحركات الاسلام الوسطي، بل خصما لدودا له، ذلك لأنها راحت تشكك في إسلاميتها من خلال تكفير وتفسيق وتبديع روادها.
السلفييون و ثورات الربيع العربي
سلفيو مصر كنموذج
وقفت الدعوة السلفية موقفا سلبيا من ثورة 2011 و ذلك لأسباب دينية، فالاسلام من منظورهم يحرم مناهضة السلطة القائمة والخروج عن ولي الأمر كما أسلفت، وأخرى برغماتية مصلحية. ففي مصر كان السلفيون متيقنين من عدم مقدرة الثوارعلى إسقاط نظام مبارك فامتنعوا عن المشاركة في الحراك الشعبي، مخافة أن تتحول الدعوة السلفية إلى كبش فداء تنتقم منها آلة النظام القمعية. لو تصدر الاسلاميون صفوف الثوار لم تكن أجهزة النظام الأمنية لتتردد عن مواجهتهم بالنار، وما كانت القوى الغربية الحليفة لنظام مبارك لتندد بذلك بنفس الدرجة بالتاكيد.
لهذا السبب ظلت مساجد السلفيين يوم 4 فبراير 2011 أو ما سمي يومها بجمعة الرحيل موصدة الابواب، أي الغيت صلاة الجمعة فيها مخافة انطلاق المصلين منها للمشاركة في التظاهرات. أما الرموز السلفية الغير مرتبطة تنظيميا بالدعوة السلفية، لكن تتحرك في فضائها مثل محمد حسان و مصطفى العدوي، فنجدها تتوخى الحذر وتبدي انتهازية كبيرة بالتحاقها بالثورة في أيامها الأخيرة.
بالرغم مما سبق نجد الدعوة السلفية أكبر المستفيدين من حقبة ما بعد مبارك، فلقد تخلت عن استراتيجية الإبتعاد عن الساحة السياسية بحجة حماية الهوية الاسلامية، ومقاومة الحركة اللبرالية الساعية لعلمنة المجتمع المصري. و في هذا السياق أسست الدعوة حزب النور كواجهة سياسية لها وفي الانتخابات النيابية 2011- 2012، استطاع الحزب على إثرها حصاد ما يقارب ربع عدد مقاعد مجلس الشعب.
كثير من المراقبين رأوا في هذا تحولا هيكليا عند التيار السلفي التوحيدي بصفة عامة، متصورين إلتحاق كل العناصر السلفية التي تشكل التيار السلفي العام بهم، ولربما نهجت التيارات الجهادية المنافسة لهم نفس النهج في إطار ما تسمح به هيئاتهم الوطنية.
من هنا فإن حزب النور السلفي، على خلاف التيار المدخلي الذي يقر بالخضوع لحكم المتغلب أو التيار الجهادي الرافض للحكم النيابي، لم يكن يمتنع عن المشاركة السياسية في حقبة حكم مبارك لدواعي إديولوجية وانما لأسباب برغماتية (مصلحية) بحتة. بناء على ما تقدم كان يمكن أن نتنبأ بدخول السلفيين المعترك السياسي على خلاف ما كان يتصوره بعض المراقبين من عزوف سياسي مبدئي عندهم. كما كان يمكن اأضا ان نتنبأ بانخراطهم إلى جانب قوى الثوره المضاده من أجل الإجهاز على مكتسبات الربيع العربي وإزاحة الاسلاميين الوسطيين من السلطة وإنهاء المسار الديموقراطي الذي لم يؤمنوا به يوما ، وإنما شاركوا فيه من أجل إفشاله بايحاء من قوى التحكم المتغلغلة في كيان الدولة العربيه أحيانا و من قوى محليه لا تخفي تبعيتهم لها.
ذ. موسى مركوش/ هولندا