الإستبداد وأضراره الإجتماعية – ذ. محمد أزرقان
قراءة في كتاب طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد للكواكبي
قرأت في هذه الأيام القليلة الماضية كتابين من أفضل ما كتب في فلسفة السياسة والإجتماع: (طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد – للكواكبي) و(مقالة العبودية الطوعية – لايتيان دو لا بويسي الفرنسي).
أبدأ بأفكار كتاب الكواكبي وفي المرة القادمة إذا سنحت لي الفرصة أعرض فيها أفكار مقالة لابويسي.
الكواكبي من المفكرين القلائل في التراث العربي الإسلامي الذين عالجوا معضلة الإستبداد معالجة سننية قانونية.
قسم الكتاب إلى تسعة فصول رئيسية (حسب النسخة المتوفرة لدي)، يبحث فيها الكاتب العلاقة بين الإستبداد وشتى مجالات الحياة فيخلص إلى ثلاث نقاط رئيسية في اجتثاث عروق الإستبداد:
- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية.
- الإستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم باللين والتدرج.
- يجب قبل مقاومة الإستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الإستبداد.
من خلال قراءتي للكتاب يتضح أن الكواكبي سبق زمانه في وضع هذه القواعد لتغيير الإستبداد مثل مسلمات الهندسية الأقليدية، صالحة لكل زمان ومكان. فكل شعب وكل أمة تريد التخلص من مرض الطغيان، لابد من أن تتبع هذه الوصفة في العلاج، لأن النفس عندما تكون متطبعة على العبودية لا ينفع معها الحلول الترقيعية.
وبحسب الكواكبي فإن التغيير السياسي لا يتم بتغيير الحاكم بالحاكم الآخر، والسبب هو أن مستبدا جديدا سوف يحل محل المستبد القديم ما لم تتغير عقلية المجتمع ونبذه للإستبداد جملة وتفصيلا. ولنا أسوة في النبي محمد (ص) عندما رفض الملك الذي عرضته عليه قريش ثمنا للتخلي عن دعوته. رفض النبي (ص) العرض لأنه كان يعلم علم اليقين أن تغيير ما بالنفوس هو الطريق السليم لخلق مجتمع راشد واعي بحريته وكرامته بها يقاوم الإستبداد والطغيان بكل أشكاله وألوانه.
فمقاومة الإستبداد يتم بتغير ما بالنفس والمجتمع بنشر الوعي والمعرفة ليعي الإنسان أن الإستكبار والإستضعاف ليسا طبيعين. ومن يقرأ القرآن قراءة سننية يجد أن مرض الإستكبار والإستضعاف عالجه معالجة تاصيلية نفسية:
“إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار” (البقرة).
الظلم نوعان: ظلم يوقعه شخص بآخر، وظلم يوقعه الإنسان بنفسه. وهذه الإزدواجية في إحداث الظلم هو لب المشكلة التي تعالجها الآية.
وفي آية أخرى من سورة سبأ يعرض علينا مشهدا كاملا لهؤلاء الظالمين بصنفيهما:”ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين”
إن هاتين الآياتين والآيات الأخرى المشابهة في القرآن تكشف عن نفسية كلا الطرفين: مستكبرين ومستضعفين. فالمستضعف عندما يغفل ويضعف يكون قد هيأ المناخ للمستكبر ليتجبر ويطغى، وكلما ضعف المستضعف زاد تجبر المستكبر، أو كما يقول المفكر خالص جلبي في كتابه (في النقد الذاتي):”أي مثل كفتي الميزان إذا ثقل أحد الطرفين بوزر الإستضعاف ارتفع الطرف الثاني بشكل آلي إلى موقف الإستكبار”.
فالطغيان نتيجة لحالة مرضية تصيب المجتمع فتتحول شريحة من شرائحة إلى عبيد مستضعفين وشريحة أخرى إلى مستكبرين متجبرين يقولون: نحن ربكم الأعلى، عليكم بالطاعة والخدمة، لا نريد منكم نقدا ولا عصيانا… فيسقط المجتمع بأسره في مطبة النسيان لكرامته وحريته.
يقول لابويسي في كتابه: مقالة العبودية الطوعية: “إنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب (الناس) متى تم خضوعه يسقط فجأة في هاوية عميقة من النسيان لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ. لا مناص من التسليم بأن سلطان الفطرة (الطبيعة) يقل عن سلطان العادة عملياً، لنقل إذن إن ما درج عليه الإنسان وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي”.
يقول الكاتب جودت سعيد معقبا على هذا النص للابويسي: “وإذا كان الكاتب – من خلال هذه العبارات – يندهش ويعقد الاندهاش لسانه في بيان خضوع الناس للوهم والمهانة، فإن الاندهاش يعقد لساننا من إجماع الناس الخرافي للتسليم بحق الظالم والمفسد في أن لا يخضع للقانون والمحاسب”.
إن أشد الظلم وأقبحه هو الظلم الذي يلحقه الإنسان بنفسه لأنه هو السبب الذي يهيأ المستنقع الآسن لبعوض الإستبداد ليفرخ ويتكاثر. والإستبداد لا يمكن أن نغيره تغييرا جذريا إلا بنشر المعرفة وتوعية الشعب بأضراره الأخلاقية والإجتماعية.
“
الإستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم باللين والتدرج” هو البند الثاني الذي وضعه الكاتب في تغيير الإستبداد. يجب أن يتم التغيير بالسلم والتدرج كما قام به الأنبياء في تغيير مجتمعاتهم “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
لا فائدة البتة من الإنقلابات العسكرية والسياسية العنفية. ويجب أن نعي أشد الوعي أن مثل هذه الإنقلابات لا تحل مشكلة الإستبداد بل تزيده تعقيدا على تعقيد. فالكواكبي رحمه الله كان مقتنعا بشر الإنقلابات العنفية فوضع هذا القانون: الطغيان لا يقاوم بالعنف لأن العنف يولد العنف، هي حلقة شيطانية لن تنتهي إن لن نضع لها حدا بالتغيير السلمي المعرفي التوعوي مهما كلفنا من تضحيات ووقت.
بل حتى ولو وصلت الأحزاب السياسية إلى سدة الحكم عن طريق صنادق الإقتراع لن تستطيع أن تغير شيئا من الوضع السائد. والثورات الأخيرة في العالم العربي تؤيد هذا الكلام. بعد انتفاضات ما يسمى الربيع العربي أتيحت الفرصة لبعض فصائل الإسلاميين ليصلوا إلى سدة الحكم عبر صنادق الإقتراع، وماذا كانت النتيجة؟ زاد تذمر الشعب وزاد تعقد المشاكل الإجتماعية والإقتصادية، بل في بعض الدول لم يستطيع الشعب أن يحمي من اختارهم كممثلين له في الحكم.
الديمقراطية لها أصولها وقواعدها النفسية والأخلاقية يجب أن يربى عليها الشعب أو أغلبيته -بتعبيرالكواكبي- عبر نشر المعرفة لتتمكن من نفسه ويعدها من الثوابت لا يتنازل عنها مهما تعرض للضغط من متابعة وإغراءات الرشاوي وشراء الهمم.
وهذه العملية هي مكلفة طبعا، تحتاج إلى الصبر والنفس الطويل وفهم سنن الله في الأنفس والمجتمع لجعلها قيد تصرفنا وخدمتنا في مواجهة الإستبداد مواجهة سلمية قانونية لا فوضى فيها ولا تهور ولا حلول ترقيعية كالإنتخابات الحرة عبر صنادق الإقتراع.
“يجب قبل مقاومة الإستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الإستبداد” هو البند الثالث في مشروع تغييرالإستبداد للكواكبي.
كان الكواكبي يدرك منذ أكثر من 100 سنة بوعي تاريخي أنه يجب قبل تغيير الإستبداد إيجاد البديل، فيقول: “معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا، بل لابد من تعيين المطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل، أو لرأي الأكثرية التي هي فوق ثلاثة أرباع عددا أو قوة بأس، وإلا فلا يتم الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعا يكون الإقدام ناقصا نوعا، وإذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أومخالفة لرأيهم فهؤلاء ينضمون إلى المستبد فتكون فتنة شعواء، وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط تكون حينئذ الغلبة في جانب المستبد مطلقا”.
المقصود من كلام الكواكبي هو: ما لم يكن البديل جاهزا فلا معنى للتبديل، فننتقل من الطغيان إلى الفوضى كما يحدث حاليا في كثير من بلدان الشرق الأوسط. التخلص من الإستبداد هو نصف المشكلة ونصفها الآخر هو البديل وهو الأصعب. ولذلك عندما ينتج الفراغ عن رحيل المستبد ولم يهيأ ما يملأ به هذا الفراغ يأتي مستبد آخر لملئه.
ويبدو أن النخبة المثقفة في العالم العربي لم تنتبه إلى هذه القوانين للكواكبي في تغيير الإستبداد والعمل على بلورتها وتبليغها إلى الناس كما حصل في الغرب مع أفكار “مقالة العبودية الطوعية للابويسي” التي تولت كوكبة من المفكرين والفلاسفة دراستها ونشرها وجعل أفكارها ميثاقا بين الدولة والأمة حتى صارالغربي إذا أخذ على يد ظالمه ومستبديه فلا يفلته حتى يشلها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها.