إمرأة غيرت وجه التاريخ في الولايات المتحدة ,فمن تكون؟ – ذ. محمد ازرقان
ذ. محمد ازرقان / هولندا
روزا باركس
حين ولدت (روزا باركس) كانت الولايات المتحدة وخاصة الولايات الجنوبية منها تعيش فترة بغيضة من الميز العنصري. كانت تلك الولايات الجنوبية تعتبر السود عبيدا خلقوا لخدمة الجنس الأبيض!
شعرت (روزا باركس) بالمهانة والألم بسبب التفرقة العنصرية… خاصة أن القانون الأمريكي كان ينص على أن يدفع السود ثمن تذكرة السفر في الحافلة من الباب الأمامي ولكنهم يصعدون من الباب الخلفي، وكذلك كان القانون يقول أن الأسود يجب أن يتنازل على مقعده للأبيض أثناء الازدحام.
انتقلت (روزا باركس) إلى مدينة مونتغمري، وتزوجت هناك وعملت في مجال الخياطة، وكان ركوب الحافلة هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى مقر عملها. وفي يوم من أيام فصل الشتاء عام 1955 ازدحمت الحافلة بالركاب. وقف رجل أبيض أمام (روزا) ينتظر أن تقوم وتترك مقعدها له. ولكن (روزا) قررت لتأتي بشيء جديد، لم يعهده من قبل الرجل الأبيض، فرفضت بكل بساطة التخلي عن مقعدها لهذا الرجل. وأمام إصرارها تدخلت الشرطة فأرغمتها بقوة على التخلي عن مقعدها، ثم فرضت عليها غرامة ثمنا لتعنتها وإصرارها. ولكن الحادثة لم تمر هكذا ويطويها النسيان، بل كانت الشرارة التي أوقدت نار الاحتجاجات والمظاهرات ضد الظلم والمهانة والميز العنصري البغيض. هذا العصيان المدني السلمي استمر قرابة السنة، قاطع فيها السود ركوب الحافلات. ورفعت القضية إلى أعلى هيئة دستورية في البلد. وبعد الأخذ والرد حكمت المحكمة في النهاية لصالح (روزا باركس) وأنصفتها في محنتها وانكسر القانون العنصري المجحف إلى غير رجعة.
وبعد مرور 46 سنة قرر مدير متحف (هنري فورد) شراء الحافلة التي وقعت فيها الحادثة، تخليدا لهذا الحدث التاريخي – الانساني، وتكريما للسيدة (روزا باركس) وجهادها في سبيل الحقوق المدنية للسود.
سجلت (روزا باركس) تجربتها في كتاب بعنوان (القوة الهادئة)، صدر عام 1994، تقول في إحدى فقراته:” في تلك اللحظة وفي ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي واعتصمت بالله فمنحني قوته التي يمنحها للمستضعفين”.
وهي تذكرنا بدعاء النبي محمد (ص) عندما انصرف عنه الجميع :”اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك”. إنه دعاء يجسد آلام المستضعفين وآلام دعاة الحرية وحرية الرأي.. والرأي الأخر. وقديما دعا نوح عليه السلام أيضا حينما أصابه الوهن:”فدعا ربه أني مغلوب فانتصر”.
هذا الأسلوب الهادىء في المقاومة هو الذي يبطل أشد القوانين استبدادا وجبروتا برفض الطاعة. إنه أسلوب ابن آدم الأول الذي قتله أخوه لا لشيء إلا للاختلاف معه في الرأي:”.. لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين..”. إنه أسلوب إنساني مبارك نبوي في مقاومة الاستبداد والاستكبار. ولكن أكثر الناس لا يعقلون!
استأنف (مارتن لوثر كينغ) العمل الذي بدأته (روزا باركس)، وكان النقطة المفصلية في نضاله وجهاده ضد التمييز العنصري. استطاع (كينغ) باستراتجيته اللاعنفية أن يساهم في تغيير وجه الولايات المتحدة وكان “لديه حلم” لجعل أمريكا لكل الأمريكيين، خالية من التمييز العنصري البغيض اللاإنساني. دفع (كينغ) حياته ثمنا لهذا الحلم،. ولكن حلمه لم يذهب سدى وجفاء، بل مكث في الأرض ينتفع منه الناس:”فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. وثمارهذا الجهاد المدني هي وصول (باراك أوباما) الأسود إلى سدة الحكم لمدة ثماني سنوات. وهذا هو قصد آية الزبد، الشر يندثر والخير يمكث لينفع الناس، أوعندما يجيء الحق يزهق الباطل. ولكن أكثر الناس لا يعلمون!