أوج وأفول الحضارات، الحضارة الإسلامية نموذجا – ذ. محمد أزرقان
أوج وأفول الحضارات، الحضارة الإسلامية نموذجا
لا أدري لم ينزعج الإنسان المسلم كل هذا الإنزعاج كلما أراد باحث من الباحثين دراسة منهج السلف الصالح دراسة تاريخية نقدية بناءة لمعرفة كيف نهض المسلمون الأوائل ووفقوا في خلق دولة راشدة في المدينة لم يعرف لها التاريخ مثيل، ثم سرعان ما انهار هذا البناء الراشد؟..
والسؤال الذي يجب أن يبحث هو: لماذا لم تدم الفترة الراشدة طويلا؟ (دامت ما يقارب ثلاثة عقود!!!).
لا يمكن أن نعطي هكذا اجابة ارتجالية على هذا السؤال الجوهري من مثل أن نقول: عليكم باتباع نهج السلف الصالح لتفلحوا!..
ستة قرون أو أكثر ونحن نسمع من فوق المنابر وعبر أبواق وعاظنا الأعزاء، يصرخون في وجوهنا: مشكلتنا تكمن في الإبتعاد عن نهج السلف الصالح!.. عليكم بالإقتداء بالسلف الصالح لتفلحوا في الدنيا والآخيرة!..
ولكن هذا الكلام لم ينقذنا من التخلف والغثائية، لأن مرضنا مرض مزمن وعضال، لا يعالج بالصراخ من فوق المنابر وإلقاء المواعظ … بل المرض يحتاج إلى طبيب حاذق ماهر في سنن التاريخ التي لا تغيير ولا تبديل لها، كتلك الدراسة التي بدأها ابن خلدون منذ ستة قرون، استفاد منها الغرب وليس المسلمين –للأسف-، وحديثا محاولة المفكر الإجتماعي الجزائري (مالك بن نبي) و(علي الوردي) العراقي اللذان درسا المجتمع الإسلامي دراسة اجتماعية نفسية منذ ظهور الإسلام إلى زماننا هذا.
هناك فرق بين الإسلام كوحي من عند الرب الخالق الذي لا تمسه يد التاريخ بتغيير وبين المنهج الإسلامي البشري الذي يعتريه التغييروالتبديل طبقا لسنن الله في النفس والمجتمع. فمنهج السلف الصالح هو منهج بشري وليس وحي. ومعنى هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم، فشلوا وبوقت مبكر في المحافظة على المجتمع الإسلامي الراشد الذي بناه لهم الرسول الأكرم (ص)، بعد كل جهاد وتعب وعناء. ومن هنا نفهم قول الرسول (ص) لصحابته:”لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”. وهذا ما تم في الواقع للاسف!
وقف الصحابة في جو الفتنة ثلاثة مواقف، منهم من رفع السيف في وجه الحاكم، بل وقاتل الحاكم بكل ما أوتي من قوة، لأنه يراه منحرف! حتى لو كان في نموذج رحمة عثمان وعدل علي. وفريق آخر اعتزل الفتنة ولم يشارك فيها، بل انسحب من الميدان كله، من أمثال عبدالله بن عمر رضي الله عنه. وفريق ثالث لم يكن ذا وزن في خضم الأحداث الجارية، حيث انتقد الخليفة عثمان واعترض عليه كما فعل أبو ذر رضي الله عنه. لم يحمل السلاح ولم يسكت فنفي إلى الربذة، كما هو معروف تاريخيا.
فهذه الفتنه التي انتهت بمعركة صفين كانت منعطفا خطيرا في إنهاء العصر الراشدي أو الطور الروحي للحضارة الإسلامية بمفهوم الدراسة التي أجراها (مالك ابن نبي) في كتابيه: شروط النهضة وميلاد مجتمع – شبكة العلاقات الإجتماعية.
اقتضت سنة الله في النفس والمجتمع أن تكون للحضارة –كيفما كان منشأها ومنبتها- دورة تاريخية. وهذه الدورة تتكون من ثلاثة مراحلة أو أطوار: طور الروح، طور العقل والإنتاج والعطاء ثم طور الغرائز وهو الطور الذي تستنفذ فيه الحضارة كل أغراضها ولم تعد تقدر على العطاء وتعيش عالة على الأمم الأخرى كحالة العالم الإسلامي حاضرا.
يبحث المفكر (مالك بن نبي) هذه الأطوار الثلاثة بحثا مستفيضا معتمدا على دراسات التاريخ، فيقول في كتابه: شروط النهضة (ص. 58):” ولا شك في أن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين – وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية – إنما كانت دينية بحتة تسودها الروح. ففي هذه الحقبة ظلت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي، من ليلة غار حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية، وهو ما يوافق واقعة صفين عام 38 هجرية”.
كانت هذه المرحلة، مرحلة البناء الروحي بفضل التربية الدينية التي كيفت سلوك المجتمع الإسلامي وضبطت غرائزه حتى صار صلبا كالبنيان يشد بعضه بعضا. البنيان الذي جعل من مجتمع المدينة المتناحر والمتناثر، مجتمعا قويا متماسكا ناضجا وقادرا على تحمل الأمانة واضطلاع بدوره التاريخي.
لم يكن الفرد المسلم يتصرف بمقتضى قانون الطبيعة المفطور في جسده أو قانون الغرائز -بتعبير ابن نبي- بل كانت حياته بكل حركاتها وسكناتها تخضع للمقتضيات الروحية التي أخضعها الدين في نفسه. صار لبنة من لبنات البنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، إسمنته الدين.
هذا البنيان المرصوص فسره الكاتب في كتابه: ميلاد مجتمع بشبكة العلاقات الإجتماعية التي كانت تربط أفراد المجتمع الإسلامي الوليد فيما بينهم، وتوجه أعمالهم ونشاطهم في اتجاه واحد وهدف واضح. فخيوط هذه الشبكة الإجتماعية تكونت في رحم الدين. وباعتقادي لا يوجد أي تفسير آخر غير هذا التفسير لهذه اللحمة الفريدة من نوعها في تاريخ البشرية.
إن أصحاب محمد ابن عبد الله (ص) قد أعطوا لنا بل للإنسانية جمعاء في هذه الحقبة أروع الأمثلة في التضحية من أجل المبادىء والقيم الكبرى وتحقيقها على أرض الواقع. لقد رباهم هذا النبي العظيم (ص) تربية روحية لا مثيل لها. ثم بعد أن اكتمل نصاب هذه التربية ونضجت الدعوة في أنفسهم لتحمل عبئها ومسؤوليتها، أمروا بالجهر بها ودعوة الناس إليها.
كان بلال العظيم لا يبالي بالتعذيب الذي تعرض له وهو يردد لفظة “أحد.. أحد”. “إنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية بلال بن رباح”. (كتاب: شروط النهضة، ص. 75). فكل لغة هذا الطور من عمر الحضارة الإسلامية كانت لغة الروح بكل امتياز وليست لغة العقل.
موقف بلال (رضي الله عنه) هذا يجسد قانون الدين الذي كان يحكم المجتمع الإسلامي الوليد في اتخاذ المواقف وتقرير مصير حضارة شاملة إنسانية سادت وقادت أمم العالم لقرون عدة.
ثم لم تمر على عمر ولادة المجتمع الإسلامي إلا ثلاثة عقود حتى بدأت تهب رياح أخرى على المجتمع الإسلامي بعد كارثة صفين. ومع استلاء بني أمية على الحكم واصل المجتمع الإسلامي (بعدما اكتمال نصابه الروحي) تطوره وانفتاحه على الأمم الأخرى. ونتيجة هذا التوسع واجه المجتمع الوليد مشاكل محسوسة معقدة. وحتى تستطيع الحضارة الإسلامية إيجاد أجوبة للمشاكل المطروحة والمستجدة، كان عليها أن تسلك طريقا جديدا، طريق الفكر والعقل.
يقول المؤرخ (مالك بن نبي في ص. 76، كتاب: شروط النهضة):”.. يواصل المجتمع الذي أبرزته الفكرة الدينية إلى النور تطوره، وتكتمل شبكة روابطه الداخلية ، بقدر امتداد إشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشاكل المحسوسة لهذا المجتمع الوليد نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله. وحتى تستطيع هذه الحضارة تلبية هذه المقاييس المستجدة تسلك منعطفا جديدا، فإما أن يتطابق مع النهضة كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأروبية، وإما أن يتطابق مع استيلاء الأمويين على الحكم كما هو شأن دورة الحضارة الإسلامية. وفي كلتا الحالتين فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالطريقة التي شاهدناها في عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها على الغرائز بالتدرج، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد”
نفهم من كلام ابن نبي أن نقطة انعطاف الحضارة الإسلامية هي معركة صفين. وهذا الحدث التاريخي هو دليل إنهاء الحضارة الإسلامية لطورها الروحي وبدء طورها العقلي. وكلما أوغلت في هذا الطور العقلي إلا وسلطة الروح تضعف وتنقص. أي، بقدر ما تضعف سلطة الروح في المجتمع، بقدر ما يتحرر ويتراخى المبدأ الأخلاقي المراقب لأفعال وسلوك الفرد.
خلال هذا الطور(طور العقل) تصل الحضارة أوجها في العطاء والإنتاج: ازدهار العلوم والفنون والفكر كما حصل في بغداد وقرطبة.
وتستمر دورة الحضارة الإسلامية في سيرها حيث يبدأ السقم والأمراض ينتابها عندما يستنفذ الجهاز المراقب لسلوك الفرد طاقته، ويبدأ الطور الثالث وهو طور الغرائز التي تكشف عن وجهها تماما وتنتهي وظيفة الدين الإجتماعي، فيعجز المجتمع عن أداء مهامه ومسؤولياته، ويصاب بالتخمة ويكثر فيه اللغط والجدالات العقيمة حول مسائل لا تفيد المجتمع في دنياه ولا في آخرته كحالته الراهنة.
وفي هذه الفترة بالذات لم يعد المجتمع الإسلامي يقدرعلى أداء أية وظيفة أوعمل اجتماعي مشترك، ذلك أن شبكة علاقاته الإجتماعية قد تمزقت بصورة نهائية. وهو ما أشار إليه النبي (ص) دون شك في حديث القصعة:”يوشك الأمم أن تداعي عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله..؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.
لم يقف كثير من شراح هذا الحديث – للأسف – عند بعده الإجتماعي التاريخي، بل اكتفوا فقط بتفسيره تفسيرا فقهيا، بيد أن الحديث هو ضرب عالي من التنبؤ والإستحضار لما آلى إليه المجتمع الإسلامي من كلالة وغثائية وتمزق، أي عندما لا يعود مجتمعا، بل مجرد تجمعات لا هدف ولا غاية لها كذرات في مهب الريح أو بتعبير الحديث: كغثاء السيل.
ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك حقيقة هذا الحديث أكثرمما يدركه أصحاب النبي (ص). استغرب الصحابة عندما أخبرهم الرسول (ص) بهذه الحقبة العسيرة من عمر الأمة. أما نحن فنفهم مضمونه فهما واضحا جليا، نعيشه في واقعنا، والواقع هو أفضل من يفسر النصوص!
إن حديث القصعة يصف وصفا اجتماعيا رائعا كيف تندثر المجتمعات وتغيب عن مسرح التاريخ، عندما تتخلي عن تحمل المسؤليات وتصاب باللامبالات والعبث بمصير الأمة واتخاذ الدين في خدمة السياسة والأرباب المستبدين وقتل الإنسان من أجل رأيه واعتقاده…
إن ما ينطبق على الحضارة الإسلامية في أوجها وأفولها، ينطبق أيضا على كل حضارة خلقها الإنسان كيفما كان دينها وإديولوجيتها طبقا للسنة الإلهية التي يشير إليها القرأن في سورة فاطر:”.. فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا..”. فكل حضارة ونهضة تنمو روحيا وتتوسع وتنتشر بين الناس بفضل إنتاجها وعطائها العقلي ثم يأتي الطوفان عندما تتحرر الغرائز تحررا كاملا من عقالها فتموت روحيا وعقليا، تصير في مهب الريح، تتقاذفها الأمواج من كل جهة، وبذلك تكون دورتها التاريخية قد تمت واستنفذت أغراضها!
وفي السياق نفسه يمكن لنا في المرة القادمة إذا سنحت الفرصة أن نجري دراسة مشابهة لسير الحضارة الغربية، كتلك التي أنجزها المؤرخ الإنجليزي (توينبي) في سفره التاريخي: دراسة التاريخ، والذي خلص فيه إلى أن الحضارة الغربية مقبلة على طورها الأخير وهو طور الغرائز.
1 Comment
ممتاز مادة الإخوة الجناح رائع