أحمد مركوش..عمدة بلدية مدينة آرنيم الهولندية – ذ. محمد أزرقان
أحمد مركوش..عمدة بلدية مدينة آرنيم الهولندية
علاقتي بأحمد مركوش علاقة قديمة، تقدر بأكثر من ثلاثة عقود من الزمن. عرفته منذ بداية استقراري في هذه البلد الطيب، عبر جلسات تعارفية جمعتني به وأخيه (موسى مركوش) وسادة آخرين. كانت هذه الجلسات الروحية تعقد مباشرة بعد صلاة العشاء، نتحدث فيها عن تزكية الروح وتنمية العقل وفرص الدراسة والاستقرار في هذه البلاد ومواضيع أخرى مختلفة…
جاء (أحمد مركوش) إلى بلاد هولندا في إطار التجمع العائلي، وهو صغير السن. لم تسمح له الظروف في بلدته بني بوغافر المنكوبة، بأخذ حظه من التعليم. تلقى تعليمه الأساسي هنا في هولندا، ثم واصل تعليمه الثانوي في الشعب التقنية، وإلى جانب ذلك تابع تكوينات ودراسات في مجالات أخرى مختلفة. ومع بداية التسعينات إلتحق بأكاديمية الشرطة، ليمارس بعد تخرجه مهنتها لسنوات عدة.
ولكن لم يرقه البقاء في مهنة الشرطة، بسبب صعوبة الترقية وضيق مجال تطور القدرات والمهارات التي تفرضها الثقافة الإنغلاقية للشرطية. عمل بعد ذلك، وبعد أن أنهى دراسته العليا في مجال التربية المدنية، في بلدية أمستردام كموظف تطوير مشارع معالجة إشكاليات الشباب. وبحكم قدراته وعطاءه، ضمه حزب العمل إلى كوادره، ثم ترشح لمنصب رئيس أحدى فروع البلدية في مدينة أمستردام الذي بقي يشغله لفترة أربع سنوات، ولاحقا شغل منصبا برلمانيا عن فريق حزب العمل لفترتين متتاليتين.
ولكن كيف استطاع أحمد مركوش أن يتسلق سلم المعرف من لا شيء إلى مثل يحتذى به في العطاء ومعالجة الإشكاليات الإجتماعية والسياسية؟
لا شك أن ظروفا كانت مواتية، منحته فرصة تطوير وتنمية قدراته العقلية والنفسية التي يحرم منها الأغلبية الساحقة من أبناء الجالية المغربية في هذه البلاد. وأحمد مركوش يقر بنفسه: “لولا هذه الظروف، لما وصلت ما وصلت إليه، لأن الوسط العائلي لم يكن سيساعد على هذه النمو أبدا”.
إننا عندما نتفحص الأحداث الإجتماعية التي سجلها التاريخ عبر الأزمنة، نجد أن فكرة الخلاص عندما تسيطر على وعي الإنسان لا تكون حاسمة، إلا أمام خطر يهدد هذا الإنسان. وهذا الخطر يأتي في صورة تحد، يستفز هذا الإنسان بإيجاد له إجابة مناسبة، ليحيا ويعيش بكرامته وعزته.
ومهما يكن في الأمر، فإنني اليوم أرى أن تأسيسنا للإتحاد الاسلامي للطلبة والشباب أواسط الثمانينات، جاء استجابة للتحدي الذي كان المؤسسون يشعرون به تجاه أنفسهم والأجيال المهددة بالضياع. وطبيعة التحدي الذي كنا نواجهه -كمؤسسين لمنظمة الإتحاد- هو عقائدي-روحي. أي، كيف يجب أن نحافظ على خصوصياتنا الدينية والعقائدية في هذا المجتمع بشتى الفلسفات والتصورات..؟!
كان على الإتحاد أن يوفر لأعضاءه في المقام الأول، حماية دينية معززة برؤية سليمة وصحيحة للوقائع المحيطة بهم. وهذه النظرة لا تتحقق، إلا في إطار خلق جو ملائم من البحث والمعرفة والنقاش وحلقات التعليم، لفهم علاقة النصوص الدينية بالواقع المعاش، فهما سليما لا تشنج ولا غلو فيه. وبهذه الآليات واجهنا تحدي المحافطة على خصوصياتنا الدينية في هذا المجتمع.
و(أحمد مركوش) كان حاضرا، يساير ويراقب هذه التطورات التي أكسبته منهجية التعاطي مع قضايا الدين والفكر الإسلامي. وبفضل مشاركته في الحلقات التعليمية والندوات والمؤتمرات التي كان الإتحاد يتولى تنظيمها، شعر الرجل بذاته وروحه تنمو وعقله يتطور، فصار واحدا من أعضاء الحلقة الرئيسين، يشارك في النقاش والحديث عن الفكر والفقه الإسلامي والسيرة.
كانت نقلة هذا الرجل نقلة فعلية – نوعية في سلم مستويات المعرفة. تحسنت لغته العربية ومعرفته للفكر الاسلامي. لم أكن ألحظ فرقا كبيرا بيننا نحن طلبة جامعيين، وبينه الذي لم ينل حظه من التعليم العربي – الإسلامي. وكنت عندما أزوره في بيته أو نكون جالسين على سطح المقهى، يسمعني ويتحفني بأبيات شعرية للإمام الشافعي، وكان يحفظ الديوان كله تقريبا على ظهر القلب.
إن كل ما تلقاه (أحمد المركوشي) في منظمة الإتحاد عبر حلقات التعليم والندوات والمخيمات بنقاشاتها وجدالاتها التي كانت تتخللها، نما مع الزمن كثمرة طيبة، آتت أكلها بعد حين، عندما تقلد وظائف اجتماعية وسياسية في المجتمع الهولندي.
و(أحمد مركوش) ليس من أولئك الذين يكدسون ويخزنون المعلومات، ولا يستفيدون منها في حياتهم الأخلاقية والإجتماعية، بل هو استطاع أن يقرأ الواقع قراءة جيدة، بكل تناقضاتها وتحدياتها ليربطها بالنصوص الدينية التي تعلمها ووعيها ربطا واضحا وسليما. وهذا يتضح من خلال تصريحاته وتعاطيه مع مشاكل النفسية والإجتماعية للجالية وطريقة معالجته لها، خاصة عندما تقلد منصب رئيس فرع بلدية أمستردام.
إن (أحمد مركوش) استطاع أن يوفق بين الثقافتين: الهولندية والإسلامية. أخذ نصيبه من الثقافة الهولندية بفضل دراساته في المدارس والمعاهد الهولندية، واطلاعه على مختلف التيارات الفكرية للثقافة الهولندية، بالإضافة إلى التجربة التي خضع لها، بدءا من البيئة العائلية التي لم ترحمه، ومواجهة مشاكل الحياة بنفسه ومصارعة الزمان لوحده، ثم شتى الوظائف المتميزة التي قلدها في المجتمع الهولندي. وكما أن منظمة الإتحاد وفرت له الجو المناسب ليأخذ حظه من الثقافة والفكر الإسلامي. وقد سمعته مرات يتحدث عن الإتحاد والإستفادة من نشاطه وعمله وهو يحن إلى ذكريات هذه الفترة الجميلة.
إنني أقدر في هذا الرجل، قدراته المعرفية ومؤهلاته العلمية، وتجاربه وطريقة تعاطيه مع مشاكل الواقع. إنه بهذه المؤهلات، يحظى باحترام من قبل مثقفين وسياسيين هولنديين كبار. صار كالنجم في وسائل الإعلام يبدد ظلمات الجالية التي غرقت فيها، ويضيء طريقا لها بقبس من النور، بتصريحاته المتزنة والمعتدلة عن الدين ودوره في المجتمع، وإعطاء وصفة حقيقية لداء الجالية ومرضها، من غير تصنع أو إخفاء لحقيقة المشكلة، ومتعاطيا معها دون الشعور بمركب النقص، أو النفاق الإجتماعي، أو مصلحة شخصية آنية – ضيقة، كما يلهث معظم الناطقين باسم الجالية من وراء مصالحم الشخصية.
إن (أحمد مركوش) يظهر في زمن اختلط فيه عن الجالية مبدأ الواجب من الحق، وهو بعمله هذا، يكذب أكاذيب هؤلاء الذين يزعمون أنهم يخدمون مصالح الجالية، ويفضح نواياهم الخبيثة اللاأخلاقية. وهو بعمله هذا يرد أيضا، على أولئك المرجفون الذين يكرهون كل ماهو إسلامي، ردا جميلا متزنا حكيما، بحيث لا يترك لهم مجالا للتطاول على مبادىء الدين السمحة، بكتاباتهم وتصريحاتهم اللاإنسانية واللامسؤولة. وكما هو يرد أيضا بعمله هذا على الذين أساءوا للدين الحنيف، بغلوهم وتطرفهم في أمور الحياة، والذين كانوا سببا في متاعب جمة للجالية، وقدموا الإسلام لأهل البلد كأنه نظام محاكم التفتيش للحريات العامة، يحدد ما يجب أن يلبس ويقال وما لا يلبس ويقال.
لقد شاهدناه عبر شاشات التلفزيون، وفي الإعلام المقروء كيف كان رده حكيما وعاقلا على كل الشبهات والتنقضات التي أثيرت من قبل الإعلاميين وكتاب الرأي حول مبادىء الإسلام، حينما لجأ متطرف من أصول مغربية إلى قتل السنمائي والروائي (تيو فن خوخ) بسبب نقده اللاذع للإسلام والمسلمين. وكانت مصيبة ومحنة حلت بنا فعلا كجالية مسلمة، دفعنا ثمنها ولا زال جرحها لم يلتئم بعد، وهي جاءت تتمة لعاصفة الحادي عشر من سبتمبر التي جعلت أهل البلد يشكون في كل ما هو إسلامي. واستطاع (أحمد مركوش) في هذه المحنة أن يدير النقاش في وسائل الإعلام بروح عقلانية وقيم إنسانية مما جعل كثير من المثقفين والسياسيين العقلاء، يؤيدونه ويتفقون معه في معالجتة للمشكلة.
إن منظمة (الإتحاد) شكلت كإجابة عن التحدي (عقائدي – روحي) الذي واجه مؤسسيها في أواسط الثمانينات من القرن الماضي. ومهما قيل فيها والنقد الموجه لها، فإنني أراها اليوم بعد مرور ثلاثة عقود من الزمن على تشكيلها أنها خلقت شبكة علاقات اجتماعية خيوطها ربطت بين مجموعة أفراد يشغلهم هم واحد، ويشتركون في اتجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة وهدف معين.
والنتيجة أن هذه الشبكة (للإتحاد) أبرزت أمثال (أحمد مركوش) يحمل فكرة: “المسلم الفعال والمثقف في المجتمع الهولندي، يعطي ويأخذ” التي كانت المنظمة تدعو إليها وتجاهد من أجلها (بغض النظر عن الحزبية والتخندق الفكري).
كانت هذه سطور خصصتها للحديث عن (أحمد مركوش) بمناسبة تعيينه في منصب العمدة، وعن علاقتي وتجربتي معه، وعن مساره الفكري-السياسي في هذه البلاد، والذي بدأ من لا شيء (شبه أمي كما سجل هو بنفسه في مذكراته) لينتهي به الأمر إلى وضعية متميزة في الفكر والإجتماع والسياسة، وتقليد أهم المناصب السياسية والاجتماعية، آخرها هذا المنصب المتميز في شبكة العلاقات للسياسة الهولندية. وهذا كله لم يكن يتحقق له بدون إرادة قوية وقدرة فاعلة وهادفة، والإصرار على كسب المعرفة من شتى المصادر والصبر عليها، لأن الصبر على المعرفة وطلب العلم هو طريق يباركه الرب ويزكيه التاريخ.
ذ. محمد أزرقان – أمستردام