آفة التباهي في التواصل الاجتماعي (ثقافة شوفوني)- ذ. عبدالقادر الصالحي
من الطبيعي أن يهدف الإنسان إلى الأفضل، وأن يحسّن من وضعه المادي والاجتماعي، وأن يستمتع بما حباه الله به من نِعم كثيرة، لكن ليس من الطبيعي أن يكون محور اهتمام الإنسان هو صورته أمام الآخرين، وكيف يبدو، وماذا يقول الناس عنه، وكيف تبدو صورته لدى الآخرين.
لهذا أريد في هذا المقال أن أركز على ظاهرة صار ظهورها في المجتمعات لافتا للانظار بصورة مقززة للنفس، وهي مسألة التباهي والتفاخر من خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي بالأشياء والمقتنيات والمشتريات والممتلكات والسفريات على اختلاف أنواعاها وأشكالها. وتسمى عند البعض بثقافة «شوفوني» ثقافة التباهي والاستعراض أمام الملأ وامتدادها إلى وسائل التواصل الاجتماعي فباتت هذه الوسائل فضاء للتباهي والإسقاطات النفسية والاجتماعية (ولا أعمم) لدى البعض. ثقافة أسهمت في إنتاج جيل يهتم بالمظاهر ويتباهى بالصورة والخبر على حساب المضمون.. وكأن عقدة حب الظهور قد استحكمت فيهم، والهدف منها عند البعض تمجيده لنفسه بشكل مبالغ فيه، وإحاطته بهالة خاصة قصد إثارة الانتباه إليه من طرف رواد هذه المواقع، وأحيانا أخرى الرغبة في توجيه رسائل مبطنة إلى أشخاص بعينهم قصد إثارة غيظهم.
ولا شك أن مشاركة الآخرين كالأقارب والمعارف بما نقوم به من أقوال وأفعال هو جزء من طبيعة الإنسان في المجتمع بالفطرة، ولكن حين يصبح هذا الأمر مجرد هوس أو إضاعة للوقت مع الآخرين، ثم ينتقل إلى مرحلة التباهي والتفاخر بها، فها هنا تكمن المعضلة، حيث يتم تصوير وبث الصور والفيديوهات في تلك المواقع( فايسبوك، انستغرام، تكتوك، وغيرها) لمعظم ما نقوم به في حياتنا في الحل والترحال حتى أصبحنا نسمع ونرى كل حركة وخطوة وهمسة، بل حتى كوب القهوة يتم تصويره ونشره، فالتباهي يبدأ من كوب قهوة في مقهى شهير، أو عشاء في فندق، وانتهاء بتصوير السيارة والمنزل والمصيف والسلسلة لا تنتهي، بل كل قول أو فعل يصور أو يسجل بلا تحفظات أو موازنة أو تفكر في تبعات ذلك أو العواقب الوخيمة التي يترتب عليها هذا السلوك.
بالله عليكم، ما هي الفائدة المرجوة حين يتباهى الغني المقتدر بأنه أنفق الأموال من أجل المتعة والتسلية في السفر، وإظهار وجبات الطعام المسرفة، والفنادق الفخمة، والبذخ في الهدايا وغيرها؟!. ما الذي يستفيده المتابعون؟ وما الثقافة أو المعلومة المفيدة وراء ذلك كله؟
ويذكر أن ابن حزم رحمه الله قال يوما:” كم رأينا من فاخر بما عنده من المتاع، فكان ذلك سببا في هلاكه، بعين حاسد أو كيد عدو، فإياك وهذا الباب، فإنه ضر محض لا منفعة فيه أصلا.
ومن تبعاتها أيضا أنها تفتح باب المقارنات بين الأسر، وربما يصل الحال بالناس إلى درجة الغيرة والحسد والحقد، والمناكفات والمشاحنات، فتتمكن البغضاء من النفوس. وهي أيضا تخلق نوعا من الحسرات والعبرات بكسر قلوب الآخرين من الأسر وأطفالها(خصوصا المراهقين) يتأثرون سلبا بما يرون ويسمعون، ولا سيما من يعيشون في شظف من العيش.
كثير من الناس يعيشون حياة متأزمة ويمرون بفترات صعبة …ونحن في المقابل نتباهى بالسفر والطعام واللباس، بل كثير من النساء ينشرن فديوهات وصورا للأماكن التي يرتادينها من أماكن سياحية وفنادق فخمة ومسابح وإظهار سيارات فارهة وملابس فاخرة وأطعمة مختلفة ومشروبات متنوعة… لتتحول تلك الممارسات إلى إدمان فاحش تلهث خلفه أعداد كبيرة من مرتادي تلك المواقع، ويتنافسون فيه، بحثاً عن وجاهة اجتماعية أو من باب التعالي فحسب (ثقافة شوفوني).
تشير إحدى الأخوات إلى أن الاستعراض بات مرض العصر، فجميع صديقاتها في الفكر نفسه، لدرجة أنهن نقلن لها هذه العدوى، وأصبحت تستعرض كل شيء ثمين، سواء قطعة ملابس، أو مكان زارته، ودفعت عليه الكثير. وتضيف قائلة: «هذا جعلني أفقد الاستمتاع باللحظة، وكل تركيزي على التصوير والتباهي، فضلاً عن فقدان الخصوصية، وبدل الاحتفاظ بالصور بالألبوم الخاص بي، بدأت بنشرها على الملأ.
ولقد نهانا المولى، عزَّ وجلَّ، عن التباهي والتفاخر، فقيمة الإنسان الحقيقية بعمله الصالح، وبإسهاماته في الحياة، وليس بما يملك من متاع الحياة الدنيا، وعلى الرغم من أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فإن الباقيات الصالحات هي خير عند الله من ذلك كله «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً». {الكهف:46}.
لهذا أعتقد أن هذه الظاهرة بحاجة إلى توعية، سواء من قبل علماء الدين أو المعلمين، وكل من يهتم بإصلاح المجتمع عموماً، لأن هذه الآفة ستأخذ أبعاداً نفسية واجتماعية واقتصادية مدمرة، فينعزل الإنسان تماماً عن واقعه، ويعيش في عالم التباهي الافتراضي دون وعي بخطورته. فلا بد من حملة توعوية مكثفة لمجابهة هذه الظاهرة، ونشر التوعية بين الناس بأن ثقافة التباهي والتفاخر تنحصر في التنافس الشريف من خلال التفوق في الدراسة وميادين العمل والإنجازات والابتكارات التي ترفع رأس صاحبها وتعود بالنفع على مجتمعه ووطنه أو نشر ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، ولا لزرع الأحقاد وكسر قلوب الآخرين.
ورسالتي للمتباهين في مواقع التواصل الاجتماعي، وإن زعموا غير ذلك: ليس كل ما يشترى ويقتنى أو يستمتع به يذاع وينشر، هذا ليس من الأدب ولا من التواضع، وكما يقال: ليس كل ما يعلم يقال. عليكم بالتواضع، فالتواضع خلق عظيم يبتعد بصاحبه عن الكبر، ويقربه إلى قلوب الناس ويحببه إليهم، لأن النفس البشرية تكره بطبيعتها الإنسان المتكبر الذي يتباهى بما يملك، وتنفر منه وتحب النفس المتواضعة.
قال سبحانه: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].
وقال أيضا عز وجل: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].
- قال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ هذا نهي عن الخيلاء (من ذلك المتباهون بما يملكون في حلهم وسفرهم)، وأمر بالتواضع.
روى مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد))؛ (مسلم
وارجع إلى نفسك وتفكر لو أننا تمثلنا خلق التواضع في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا في حلنا وترحالنا كم ستكون يومياتنا جميلة وكم ستكون علاقتنا الاجتماعية مستقرة وسعيدة.
أسأل الله أن يوفقنا الى كل خلق حسن ويبعدنا عن كل خلق سيء، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وقنا سيء الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه الميامين وسلم تسليمًا كثيرًا.
بقلم: عبدالقادر الصالحي(خبير تربوي) _هولندا_